لعل أهم ميزة لمواقع وسائل التواصل الاجتماعي من حيث دورها في بناء المجال العام ، أنّها تتيح الاتصال المباشر بين المستخدمين بدون الوساطة المعروفة في الوسائل التقليدية أو حتى في المواقع والصحف الالكترونية، وذلك من خلال أشكال اتصالية عديدة نجد على رأسها الحوار، وهذا الأمر في الحقيقة يقع في صلب المجال العام.
وتتمثل إشكالية بحثنا الذي جاء تحت عنوان ” الحوار والحجاج في الفضاء الافتراضي بين السجال والاستقطاب” والذي قدم في إطار المؤتمر الدولي “الفضاء العمومي ومواقع شبكات التواصل الاجتماعي: التشظي وإعادة قراءة المفهوم” المنعقد يومي 19-20 أفريل2017 بكلية العلوم الإنسانية و العلوم الإسلامية بجامعة وهران 1 أحمد بن بلة في السؤال التالي: ما مدى تجسيد فكرة “الحجاج الهابرماسي” في اللغة الحوارية لمستخدمي الفيسبوك؟ وما هي تمثلات التواصل الحجاجي أو السجالي لدى هؤلاء المستخدمين من خلال الحوار عبر الفايس بوك؟
وللإجابة عن هذه الإشكالية، استخدمنا منهج التحليل الكيفي الذي يعتمد على المشاركة والرصد المنظم وقمنا ببحث استطلاعي في صفحات الفيسبوك أظهرت نتائجه أن “الحجاج العقلي” بالمفهوم الكلاسيكي أو بالمفهوم الهابرماسي– والذي يعتمد حسبه على اتيقا أو أخلاق الحوار والنقاش السليم والبناء- لا يكفي لإجراء بحث معياري ضمن الإمكانات المتاحة لمثل هذا النوع من البحوث، فالحجاج العقلي أو المعياري لم يكن متوفرا بالنسبة الكافية، إلا في حالات نادرة، يمكن دراستها باعتبارها حالات فردية، بينما الهدف هو استطلاع الفضاء الذي يمثله موقع الفيسبوك بمجموع مستخدميه.
لقد قام البحث على رصد الحوار في (30) حساباً من حسابات الفيسبوك ضمت: خمس مجموعات من مجموعات الاهتمام الأكاديمي المشترك في كل من الجزائر، تونس، الأردن، فلسطين، لبنان. وضمت (25) حساباً بواقع (5) حسابات شخصية من مواطني كل دولة من الدول المشار إليها. وقد اختيرت تلك الحسابات بطريقة قصدية وفق ثلاثة أسس هي: النشاط التفاعلي الدائم للحساب، عدد متابعين لا يقل عن 500، (في بعض الحالات وصل عددهم بالآلاف)، ثم اهتمام صاحب الحساب بقضايا الشأن العام .
تمّ تسجيل الملاحظات في سجلات خاصة ضمت:أولاّ، قضايا الاهتمام المتداولة (الموضوعات) وثانيا، التعليقات على المادة المنشورة وثالثا، مؤشرات الاستقطاب أو مؤشرات الجماعة ورابعا، استخلاصات كيفية/ نوعية بالاعتماد على الملاحظة وبالاعتماد على المؤشرات السابقة.
كما تمّ الاستعانة بمنظورين في البحث هما منظور “التعرض الانتقائي” (selective exposure) و”التنافر المعرفي” (cognitive dissonance)، بالنسبة للمنظور الأول، فإن الأفراد المُستخدِمين يبحثون عن الصفحات والحسابات التي توافق قناعاتهم السابقة، لذلك فهم يميلون للتعرض إلى ما يناسب اتجاهاتهم، وفي مرحلة لاحقة، فهم يميلون لتذكر ما يوافق اتجاهاتهم من الأخبار والمعلومات والآراء، مقابل طرح أو نسيان ما لا يوافق تلك الاتجاهات.
غير أن منظور التعرض الانتقائي يبدو ناقصاً أو قاصراً عن تفسير ديناميات التواصل الافتراضي، لذلك كان لا بد من الاستعانة بمنظور التنافر المعرفي، إذ تشتغل عملية أخرى من وجهين، هي عملية الاستقطاب والتنافر، والاستقطاب هي العملية التي يسعى من خلالها الفرد أو الجماعة (القائم بالاتصال) إلى جذب الآخرين وضمهم إلى اتجاهاتهم ومعتقداتهم، بينما تشكل عملية الطرد (التنافر المعرفي) عملية معاكسة يجري فيها استبعاد أولئك الذين لا يتوافقون أو يتكيفون مع الاتجاه السائد في الحساب سواء أكان لمجموعة أو فرد، وعملية الطرد هذه تتم من قبل القائم بالاتصال ومن قبل الطرف الآخر أو المستقبل/ المستخدم بوعي ورغبة، وسيكون من نتائج هذه العملية ظاهرة ما نطلق عليه القبائل أو الجماعات المغلقة أو شبه المغلقة، وهو ما أطلق عليه البعض “التوحّد الرقمي” Digital Autism.
ومن أهمّ من نتائج هذا البحث:
– يصعب الحديث عن وجود ظاهرة حوار يقوم على الحجاج العقلي، إذ يفترض الحجاج العقلي توفر شروط معيارية محددة غير متوافرة حاليا في المجتمعات العربية، أو على الأقل بين مستخدمي الفيسبوك، أولها: محددات سياسية تتمثل بالديمقراطية، وثانيها محددات اجتماعية/ ثقافية تتجسد في تمثُل ثقافة الحوار والنقاش القائم على الحجة، وثالثها ما يتصل بخصائص الفيسبوك نفسه، من حيث كونه صفحات مفتوحة أو شبه مفتوحة يجتمع فيها مستخدمون متباينون من حيث الثقافة والتعليم والأيديولوجيا وغير ذلك من تباينات.
– إن أهم مؤشرات تدني الحوار التفاهمي أو الحجاج العقلي ستتجلى في مظاهر عديدة، اجتمعت كلها لتنتج مجاميع شبه مغلقة، قائمة على أسس عرقية أو ثقافية أو أيديولوجية أو سياسية، وهو ما أطلق عليه بعض الباحثين الغربيين تعبير “التوحد الرقمي” Digital Autism، وهو الذي ينتج حينما تميل المنتديات الإلكترونية لاجتذاب مشاركين ذوي عقليات متشابهة، هذا ما تم ملاحظته في المجتمعات الغربية. وذلك ما عاينه أيضاً عديد الباحثين على مواقع الانترنت العربية، فقد أصبح الانترنت حارات أو قبائل أو أحزاب أو مجموعات قائمة على إثنيات وطوائف وأفراد متماثلين وأعراق وملل ونحل ومهمشين.
– إن ما يجري في الخطابات المبثوثة عبر صفحات الفيسبوك كان أقرب لأن يكون نمطا من المساجلات، ورغم أن الأصل اللغوي في السجال أن يكون بين اثنين يتباريان في جلب الدلاء، غير أن سجالات الفيسبوك يمكن وصفها بأنها سجالات جماعية، المتساجلون فيها كثر، وقد يمتد السجال إلى أطياف واسعة من إطار أيديولوجي أو ديني أو مذهبي أو سياسي، بينما تتصف مادة السجال في تلك الصفحات بالعمومية أحيانا، وقد تتصل بدقائق الأمور والحوادث اليومية لتجييرها في السياق الاستراتيجي للسجال، كذلك لا يتم توجيه الخطابات إلى مخاطبين محددين على وجه التعيين في بعض الأحيان، وقد يجري تحديد المُخاطب بالاسم أو الوظيفة أو القول المنسوب إليه في أحيان أخرى. وإذا ما شئنا تقييم هذا النمط من السجال، فهو سجال إيجابي على المدى الطويل، ولعله مقدمة أو تمرين يؤدي بالتراكم إلى إشاعة قواعد السجال وأخلاقياته.
– ظاهرة الجدل موجودة وفيها نوعان، المحمود وهو كلُّ جدالٍ أيَّد الحقَّ أو أوصل إليه والجدل المذموم وهو كلُّ جدالٍ أيَّد الباطل أو أوصل إليه ، مع ذك فهو أقل حضورا من ظاهرة الاستقطاب التي تعني غياب وجهة النظر المقابلة، وغياب الرأي الآخر، والاكتفاء بالتأييد والمناصرة.
حقوق الصورة @addiction-wiki
وسوم: الحجاج • الحوار • الفضاء العمومي • مواقع التواصل الاجتماعي • هابرماس