ثلاثة مشاهد تبدو منــفــصلـة، لكــنها مترابطــة الــحلقات، ومحــورُها الــحرب الإعلامية والسيكولوجية الدائرة على كسب عقول الشباب: الشاب التونسي أنور بيوض (26 سنة) يستعيد عقله الذي صودر منه، فيفرّ من سراديب «تنظيم الدولة» في سورية إلى تركيا… والسلطات الدينية التونسية تستعيد مسجد «الأمة» من المدعو الخطيب الإدريسي الذي استخدمه على مدى سنوات للتحريض على «الجهاد»… و635 إرهابياً تونسياً يعودون إلى بلدهم في الفترة الأخيرة، لكن الأرجح أن عدد العائدين أكبر من ذلك.
لأن «تنظيم الدولة» ومن قبله «القاعدة» اكتشفا قدرة وسائل الإعلام من جهة ومنابر المساجد من جهة ثانية، على استقطاب الشباب بغية تجميد عقولهم وتحويلهم إلى «روبوتات» تُنفذ ما يُطلب منها، استثمر التنظيم كثيرا في هاتين الوسيلتين، ودرّ الاستثمار حصاداً وفيراً. لذا لا يجب أن نستغرب عندما تخبرنا والدة أنور بيوض أن نجلها خضع لعملية غسل دماغ في مسجد يقع في «حي النصر» الراقي بضواحي تونس العاصمة، قبل أن يقرر السفر إلى سورية للالتحاق بالتنظيم الإرهابي. وهذه الحقيقة تعيد إلى الأذهان السؤال المتجدد عن المساجد الخارجة عن القانون، التي قالت الحكومات المتعاقبة في تونس منذ عهد «الترويكا» إنها استكملت سيطرتها عليها، ثم يتضح في كل مرة أن ذلك ضربٌ من التضليل.
ويُعتبر تخريب العقول على أيدي أئمة مُؤدلجين ومسيسين مقدمة ضرورية لإعداد الضحايا الذين يُساقون إلى حتفهم بعنوان «العمليات الانغماسية» في سورية والعراق، وطبعاً في تونس أيضاً. ويقوم بعض تلك المساجد، التي ما زال المتطرفون يتحكمون بها، بـ»إنضاج الثمار» من أجل أن تقطفها الشبكات الإرهابية في الداخل والخارج فتجنّد أولئك المغرَّر بهم في عملياتها.
وشاهدنا في تقارير تلفزيونية عربية وأجنبية عدة أهمية الدور الذي اضطلعت به مساجد معينة في ضواحي العاصمة تونس وخارجها، في استدراج الملتحقين بالتنظيمات الإرهابية. ولعل وضع «مسجد الأمة» الذي ظل المدعو الخطيب الإدريسي يؤمّ المُصلين فيه على مدى سنوات، خير مثال عن التقاعس المشهود للحكومات المتعاقبة عن حماية عقول الشباب الأبرياء من دسِ السُم في الدَسّم. سمعنا بهذا «الداعية» للمرة الأولى لدى اكتشاف «مجموعة سليمان» المسلحة في جبل يقع في الضاحية الجنوبية للعاصمة العام 2006، إذ اعتُقل ثم أفرج عنه على رغم أنه المرشد الروحي للجماعة. وها نحن نكتشف اليوم بعد عشر سنوات أنه ظل إلى بضعة أيام خلت يبث السموم، محرضاً على «الجهاد»، ويعقد «اجتماعات مشبوهة مع عناصر متطرفة» (بحسب ما ورد في وسائل إعلام محلية)، قبل أن تستعيد السلطات الدينية السيطرة على المسجد (إلى أن يأتي ما ينفي ذلك).
تتكامل هذه الحفريات في عقول الشباب مع تفريغ الأدمغة وإعادة شحنها برسائل العنف ومفردات القتل والذبح، وهو ما تشتغل عليه بنجاح منقطع النظير الآلة الإعلامية لـ»تنظيم الدولة». فبالإضافة إلى وسائل الإعلام التقليدية التي وظف التنظيم لإدارتها كوادر شابة ومتمرسة، مثل وكالة الأنباء «أعماق» ومجلة «دابق» وإذاعة «البيان»، قام باجتياح الفضاء الافتراضي مستدرجاً الشباب بشتى الوسائل إلى مقولاته المتشددة. وفي هذا الصدد يعتبر الخبير الفرنسي في شؤون «داعش» فرنسوا برنار هيغ أن «إعلام التنظيم متطور جداً، إذ يعتمد على التقنيات السينمائية والإخراج الجميل والألوان الزاهية التي تُستخدم عادة في المحطات التلفزيونية الغربية، بما فيها المسلسلات والمنوعات».
900 مادة
وطبقا لنتائج دراسة أعدَها مركز «كويليام» البريطاني أنتجت الطواقم الإعلامية التابعة للتنظيم في شهر واحد 900 مادة إعلامية بين مرئية ومسموعة ومكتوبة، وهو رقم لا تحققُهُ عادة سوى الشبكات والمجموعات الإعلامية الكبرى، بالإضافة لعشرات المواقع والوسائط الإعلامية المختلفة التي لا تنطق رسمياً باسم التنظيم. وعلى سبيل المثال تُظهر إحدى اللقطات شاباً يوجه رسالة قبل إقدامه على تنفيذ عملية انتحارية، هذا نصها: «باسم الله والصلاة والسلام على رسول الله. أما بعدُ، رسالتي إلى إخوتي في دولة الخلافة: أوصيكم بتقوى الله وحدثوا أنفسكم بالعمليات الاستشهادية، فهي أقرب طريق إلى الجنة». بهذا المعنى تلعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً كبيراً في الترويج للإرهاب واستقطاب العناصر المؤهلة للانحراف. وأفادت بعض الدراسات أن 80 في المئة من المنتسبين إلى الجماعات المتطرفة تم «اصطيادهم» بواسطة وسائل التواصل الاجتماعي، إذ ارتفع عدد المواقع التي تسيطر عليها من 12 موقعاً إلكترونياً فقط في 1997 إلى ما يزيد على 150 ألف موقع في مطلع العام الحالي.
ويُركزُ هذا الإرهاب الإلكتروني على بث فكر يقوم على التشكيك في كل ما هو سائد ثقافة وديناً ونظاماً اجتماعياً، بل وتقويضه من أجل تحويل الجمهور المستهدف، وبخاصة الشباب، إلى فكر التعصب والمُغالبة والعنف. وفي الوقت نفسه يزعم أن التنظيم أكثر إسلاماً وأصولية من أي جهة أخرى وأكثر نقاء وحزماً، وبذلك تصبح ممارسة العنف أمراً يدعو إلى الإعجاب عوض أن يكون مدعاة للنفور، بخاصة عندما يتم تبريره بأنه للدفاع عن الإسلام، في إطار السّعي لبناء دولة خلافة تقيم مجتمعاً إسلامياً مثالياً، يتيح لهؤلاء الشباب تحقيق حلمهم في العيش كمسلمين حقيقيين.
كيف يمكن مقاومة هذا الغول الإعلامي ذي الأصابع المُتعددة، من أجل حماية الأجيال الشابة من نزقه؟ إذا ما صحَ أن 635 من الشباب التونسيين الذين التحقوا بـ»تنظيم الدولة» عادوا إلى بلدهم (بحسب وزارة الداخلية ويمكن أن يكون عددهم في الواقع أكثر من ذلك)، فهذا برهانٌ على أن العلاج ممكن، وأن فرص تطويق تلك الدعاية وكشف ضلالها المُبين ليست بالقليلة. ويحتاجُ ذلك إلى خطة متكاملة تبدأ من المدرسة باعتبار الدور المحوري للمؤسسة التربوية في تلقيح الناشئة ضد سرطان الإرهاب. وقديماً قال الإمام محمد عبدُه «إن أول ما يجب أن يُبدأ به: التربية والتعليم لتكوين رجال يقومون بأعمال الحكومة النيابية، على بصيرة مؤيدة بالعزيمة، وحمل الحكومة على العدل والإصلاح». وتشملُ هذه العملية أيضاً وسائل الإعلام، التي ينبغي أن تحترس من ترديد أباطيل التنظيمات الإرهابية، وتعمل في الوقت نفسه على تعريتها بأسلوب مهني. والأخطر من ذلك هو ملاحقة الفكر الإرهابي على شبكات التواصل الاجتماعي، التي باتت «تُربّي» الشباب أكثر مما تربيه الأسرة والمدرسة.
لكن لن يُكتب النجاحُ لهذه الحملات المضادة ما لم نكسب المعارك على منصات التواصل الاجتماعي أسوة بـ»فايسبوك» و»تويتر» و»إنستغرام»، لإماطة اللثام عن الأساليب التضليلية التي يعتمدها التنظيم الإرهابي للتغرير بالشباب وتجنيدهم في صفوفه. وهذا يقتضي أن تتهيَأ النخبة لهذه المعركة لا أن تغرق في اللعبة السياسوية والصراعات السخيفة على المواقع والكراسي. فالنخبة العربية مطالَبة بالمساهمة في الجهد الدولي لتجفيف الينابيع الفكرية للإرهاب، وفضح أساليبه الدعائية المُخاتلة، وأيضاً في إبراز الطابع الإنساني لديننا الإسلامي، بما هو رسالة تسامح وحوار وسلام للإنسانية قاطبة. ولن يتأتى ذلك الإسهامُ إلا بإطلاق عملية تنويرية وتثقيفية واسعة لمُجتمعنا، وبالأخص لشبابنا، لتوعيته بخطورة الالتحاق بالتنظيمات الإرهابية ومسايرة فكرها ومقولاتها الزائفة.
غير أن سياسيينا مشغولون بما هو أهم: بتقاسُم جلد الحكومة. وصدق الزعيم الفرنسي الراحل ميشال روكار حين قال عن سياسيِي بلاده إنهم «فئة من الناس يُلاحقها ضغط الوقت، فلا تستمتعُ بنهاية أسبوع ولا بسهرة هادئة، ولا تملك وقتاً للقراءة مع أن القراءة مفتاحُ التفكير، ولذلك فهم لم يعودوا يُبدعون شيئاً. إنهم ينتظرون حلول المواعيد الانتخابية بلا مشروع مجتمعي لدى هذا الفريق ولا لدى الفريق الآخر».
حقوق الصورة: جريدة الضمير نيوز
ملاحظة: نشر هذا المقال بموقع جريدة الحياة