قد تكون مقولة “انبعاث الهويات” للكاتب الكندي في مسألة التعددية الثقافية ويلكيمليكا, العبارة الأكثر قدرة على استقراء المشهديّات الآنية حيث استحال موضوع الهويات الأقلياتيّة باعتبارها جماعة بشرية في وضع غير مهيمن قائمة على التضامن البيني والتمايز على الآخر, موضوعا ذا تأثير إجرائيّ وأهميّة معرفية في صلب المدونة القانونية الدوليّة ومتون الخطاب السياسيّ وحقل علوم الإعلام والاتّصال.
فلئن كانت مرحلة مابعد الحرب العالمية الثانية بداية التأصيل القانوني والفلسفي والسياسي لحقوق الإنسان تأسيسا على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في 1948 والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية في 1966, وبزوغ فلسفة الوجودية مع جون بول سارتر وبراديغم المثقف العضوي مع غرامشي , فإنّ حقبة مابعد سقوط جدار برلين وتفكك الكتلة الشيوعية إبان التسعينات كانت إيذانا بانكباب قانوني وابستيمي ب”الهويات الأقلياتية” ك”جماعة متجانسة غير مهيمنة ترتسم فيها سمات اثنية ولغوية وتاريخية وثقافية مشتركة” وفق التحديد التشريعي للأقليات.
ولئن ترسّخ التطرّق القانوني الدولي لموضوع “الأقليات” من خلال اعتماد الإعلان بشأن حقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو اثنية وإلى أقليات دينية ولغوية في 1992, فإنّ حفريات معرفية رصدت الموضوع بالدرس والتحريّ استقراء وتحقيبا وتحقيقا لوضعيّات ملحوظة ومرصودة في سياقات عديدة, على غرار الأكراد في العراق وسوريا والأرمن في تركيا والمسيحيين في جنوب السودان, والأقباط في مصر, والباسك في فرنسا والكتالون في إسبانيا والتوتسي في رواندا والبوسنة في يوغسلافيا سابقا, وليس انتهاء بالأمازيغ في المغرب العربيّ وهي القضية قيد الدرس في أطروحتنا.
فعلى مدى أكثر من 3 عقود على الأقلّ, كان مبحث “الأقليات” مدار تطرّق في الأدبيات المعرفية العربية والغربية من زاويتي “المسألة” la question أو الإشكال le problème , وفي الحالتين كان الموضوع يمثّل قضية شائكة وحساسة تستدرّ معها مجموعة من الأسئلة المؤشكلة على الدولة الوطنية أو او ما تسميه الأدبيات الأقلياتية “بالغالبية الحاكمة” ذلك انّ المبحث يبنى على التغاير ويؤصّل على مبدإ الاعتراف بالاختلاف وهو ما يصفه الفيلسوف الهندي أرجون أبادوري بنرجسية الفروق البسيطة القائمة على استدعاء سرديات هوياتية مختلفة عن الذاكرة الوطنيّة الرسميّة.
وسواء أيضا أطرح الموضوع الأقلياتي من زاوية احتفائية بالتغاير قوامها نظرية التعددية الثقافية أو من مقاربة تحفظيّة جوهرها براديغم الأمن الهوياتي, فإنّ الموضوع سيلامس أسئلة بناء الدولة الوطنية الحديثة وسيحايث السياسات الإعلامية للدولة الرسميّة, هذه الأخيرة التي مثّلت الخيط الناظم تقريبا لمطلبية الفاعلين الأقلياتيين استدرارا لحضور إعلامي أرحب في المشهد الإعلامي العمومي , صورة وصوتا وفق مقولة الباحث المغربي محمد الغيداني ولإعادة تأثيث الفضاء الإعلامي بشكل يسمح لها بالتعبير عن هويتها الجماعية كما تريد وتبتغي.
“إذ شكّلت مقولة تأسيس مجال عموميّ ديمقراطي وتعددي وفق مقاربة الفيلسوف الألماني يورغانهابرماس حيث يكون الفضاء العمومي حيّز توسّط بين الدولة والمجتمع فيه يتمّ تداول الآراء بشكل عقلاني وحجاجي يسمح بالتمثيل لكافة الفاعلين أيا كانت هوياتهم” مدار مطلبية العديد من الأقليات اللغوية والاثنية ومن بينها الأمازيغ في منطقة المغرب العربي.
الأمر الذي استحالت معه ثلاثية “الأمازيغ والإعلام والمجال العمومي الديمقراطي” ثلاثية تلازميّة في مطلبية الفاعلين الجمعياتيين الأمازيغ في المغرب والجزائر على وجه التحديد, تشكيلا لمقولة الباحثة الفرنسية في إعلام الأقليات Isabelle Rigoni في ضرورة التعدد والتعددية في الإعلام الملّون الحقيقي في بحثها المعنون بQui a peur de la télévision en couleur ?
ولئن مثّلت عقود ما بعد الاستقلال وصولا إلى نهاية الألفية الثانية, سنوات انغلاق الفاعل الرسمي في دول المغرب العربيّ على مطلبيّة تشريك الأمازيغ في الفضاء الإعلاميّ المرئي تحديدا, إلا من نشرات إخبارية يتيمة تذاع باللهجات الأمازيغية فإنّ سنوات العقد الأوّل من الألفية الثالثة عرفت تأسيس أوّل قناة أمازيغية عمومية في الجزائر “الرابعة” في 18 مارس 2009 وأخرى في المغرب “الثامنة” في 6 جانفي 2010, كما سمحت أحداث 2011 في تونس وليبيا وتطوّر التقانة وانتشار شبكات التواصل الاجتماعي بانفتاح المشهد الإعلامي وظهور مدونات ومواقع إلكترونية وصفحات أمازيغية بالإمكان سحب التعريف الأكاديمي للتيجاني بولعوالي للإعلام الأمازيغي بأنه كل وسيلة إعلامية لها مضمون أمازيغي أيا كانت لغة البث والنشر, عليها.
على هدي ما تقدّم بسطت أطروحةالدكتوراه التي قدمناها بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار (تونس) الإشكاليّة التالية:
إلى أي مدى أسهم الإعلام الأمازيغي في منطقة المغرب العربيّ الكبير في بلورة مجال عمومي وفق مقاربة الفيلسوف يورغان هابرماس؟
ومن لدن هذه الإشكاليّة الفرعية تتمخّض فرضيات الدّراسة وهي :
- الإعلام المرئيّ الأمازيغي مجسّدا في القناتين الثامنة الجزائرية والرابعة المغربيّة ساهم في وضع اللبنات الأولى لمجال عموميّ تعددي وديمقراطيّ وذلك من خلال تعددية الأفكار الواردة والتوزيع العادل لحضور الفاعلين السياسيين والاجتماعيين في المضامين الإخباريّة وإثارة قضايا الشأن العامّ بما فيها القضايا السياسيّة والحقوقيّة للتّداول ضمن النقاش الحرّ والعقلانيّ.
- شكّلت صفحات التواصل الاجتماعيّ في تونس للمجموعات الأمازيغيّة فضاء للتداول الحرّ والنقاش العقلاني والحجاجيّ على أساس الاحترام المتبادل دون استدعاء للهويات المنغلقة أو السرديات القومية الإقصائيّة عاكسة لكينونة الاتصال الافتراضي بماهوبراديغمالأوفى لتأصيل الحداثة والديمقراطية والوسيط الفعلي والعملي لتأسيس تفاعلية عقلانية.
وقصد استجلاء إشكالية الأطروحة واختبار القدرة التفسيرية للفرضيات الواردة تعيّن اعتماد تمشّ علمي ومنهجي دقيق متوسلا بأدوات تحليلية ومناهج بحثية منسجمة مع طبيعة الإشكاليّة المتمحورة حول استقصاء طبيعة دور الإعلام الأقلياتي الأمازيغي بالمغرب العربي في تشكيل مجال عموميّ وفق مقاربة الفيلسوف الألماني يورغانهابرماس.
فقد اجتبى الباحث تعريف الفضاء العموميّ على أنّه: الفضاء الرمزي الذي يتوسّط الدولة والمجتمع والذي يتمّ داخله تداول قضايا الشأن العامّ بشكل حرّ ومسؤول بين المتحاورين الذين يصلون إلى التوافق عبر اختيار الرأي الأكثر محاججة وعقلانية استدلاليّة.
وبعد استنطاق العينة المجتباة, وتحليل النتائج الكميّة المستنتجة بمقارنة بعضها البعض وبتنزيلها ضمن السياق المؤطّر للفعل الإعلاميّ وربط المؤشرات بكينونة الإشكالية المطروحة، استخلص الباحث مجموعة من النتائج التي سنعرضها ضمن البناء الثلاثي لبراديغم المجال العمومي.
خلاصة الخلاصات بأنّ قد تكون مقولة يورغانهابرماس عن الحداثة بأنها مشروع لم يكتمل بعد , العبارة الأقدر على تلخيص وتجسيد كينونة المدونة الإعلامية الأمازيغية وعلاقتها بالمجال العموميّ , من زاوية أنّ دورها في تكريس فضاء عموميّ ديمقراطي وتعدديّ لا يزال في إرهاصاته البكر.
ذلك أنّ الحالة التونسية التي تعرف استنبات سياقات إنتاج المجال العمومي ممثلة في منظومة المجتمع المدني وحريّة النفاذ للإنترنت إلاّ أنّ صفحات التواصل الاجتماعي الأمازيغي لا تزال بعيدة عن استثمار هذه السياقات للمشاركة في تشكيل فضاء عمومي تعددي وديمقراطي.
أمّا المغرب والجزائر , فمن الواضح أنّ سياقات الإنتاج مجسدة في مقولة المجتمع المدني ومساهمة الإعلام العمومي في تكريس لبنات المواطنة , لا تزال في طور التشكّل والتبلور , ودون تعسّف على صيرورة التاريخ بالإمكان الإشارة إلى أنّ الانتقال الفعلي من فضاء الأحاديّة الإعلامية والثقافية والسياسية واللغوية إلى سياق التعددية السياسية والثقافية واللغوية والإعلامية , أمر غير هيّن ويحتاج إلى معاضدة التشريع بثقافة المواطنة والمواطنة الثقافية.
وإن تلمسّنا شيئا من شذرات النقاش الحجاجي العقلانيّ وقليلا من الاهتمام بالشأن العامّ – وخاصة البرامج السياسيّة والحقوقيّة- في برمجة القناتين الأمازيغيتين “الثامنة” المغربية و”الرابعة” الجزائريّة , فإنّ مياسم “الفلكلور” بما هي إيغال في تصوير طبائع الثقافة البدائيّة من خرافات وتمائم وألبسة وأغاني – على أهميّة هذا المبحث انثروبولوجيّا- , كانت غالبة في شكل ومضمون الرسالة الإعلاميّةما حاد عن مهامّ إعلام الخدمة العامّة بدرجة أولى وحال بشكل ملحوظ دون المساهمة الفعليّة في تشكيل مجال عموميّ وفق المنظور الهابرماسيّ.
ذلك أنّ القناتين الرابعة والثامنة عمدتا إلى “أعلمة انثروبولوجيا الاتصال” بشكل صارت فيه القناتان امتدادين مرئيّين لمكامن التراث المادي والرمزيّ , عوضا عن أن تعملا على إدماج فعليّ للثقافة واللغة الأمازيغية في صلب الراهن المحلي.
ولئن يعرف الإعلام الأمازيغي الجزائري والمغربي مرحلة “أعلمة الانثروبولوجيا” فإنّ المدونة الإعلامية الأمازيغية في تونس تثبت أنّ الإعلام الأمازيغي التونسي يشهد مرحلة “أعلمة الإيديولوجيا الهوياتية” وفق التعريفات الخمسة التي اجتباها المفكر المغربي عبد الله العروي للإيديولوجيا في كتابه الفلسفي المعنون “مفهوم الإيديولوجيا”…
وعلى الطرف المختلف من الأطروحة الشهيرة للمفكر الفرنسي ريجيسدوبريه بأن الفيديولوجيا – فيديو أي الصورة – قد انتصرت على الأيديولوجيا (أي الشيوعية) وساهمت في انتصار الليبرالية, فيبدو أنّ مقولة من الميديولوجي إلى الانثروبولجي ومن الميديولوجي إلى الإيديولوجي تحكم واقع الإعلام الأمازيغي في المغرب العربي.
حقوق الصورة @stbruno
وسوم: أمازيغ • اقليات • المغرب العربي • مجال عمومي • هابرماس