الإعلام العربي ليس منقطعا عن ثورات الربيع العربي ولا عن التحولات الإقليمية والدولية العميقة التي سبقت تلك الثورات مثل الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 واحتلال العراق ومن قبلها أحداث 11 سبتمبر وغيرها، ولا يمكن للفضائيات العربية اليوم أن تكون في معزل أيضا عن أجندات الدول التي تمولها وتدعمها وتستعملها كمنصات لتمرير سياساتها في أحيان كثيرة.
إزاء هذا التداخل العميق بين السياسي القُطري والإعلامي والإستراتيجي الدولي، أضحى الإعلام العربي أمام مساءلات نقدية متعددة ومكثفة كان من بينها ما طرحه الإعلامي اللبناني سامي كليب مؤخرا في مقالته التي نشرت بإصدار عن مركز دراسات الوحدة العربية بعنوان «ربيع العرب وخريف إعلامهم» والذي تساءل فيه عن السياق التاريخي والسياسي الذي نشأت فيه الفضائيات العربية وتأثر الإعلام العربي بسياسة المحاور وتدخل النظام الرسمي في محتواه والحلول الممكنة لتجاوز هذه الإشكالات.
بداية سامي كليب في مقالته كانت مع الإعلان عن نتائج استطلاع رأي قام به عبر الواب مع 6 آلاف مستجوب سئلوا عن مدى ثقتهم في الإعلام العربي، وقد أجاب 85 بالمئة منهم أنه لا ثقة لديهم في الإعلام العربي و90 بالمئة منهم أجاب بأن الإعلام ليس سوى مطية في يد السلطة. وبهذه النتائج وضع كليب منذ البداية الإعلام العربي في موضع يراه مطابقا لأطروحته عن دور الإعلام العربي في تأجيج الثورات أو تحويل وجهتها وإجهاضها، إذ يؤكد استطلاع الرأي الذي قام به أنه لا ثقة في الإعلام ولا في السياسيين.
يذكر كليب أنن الفضائيات العربية ظهرت في مطلع التسعينات وسط مناخ دولي عنيف التحول، خاصة وأن الاتحاد السوفييتي قد انهار وتفكك، ورجحت الكفة في الصراع البارد للغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وأما عن العالم العربي فقد عرفت الأنظمة شرخا عميقا بعد غزو عراق صدام حسين للكويت مطلع التسعينات وبدء حصار طويل انتهى بغزوه سنة 2003 مرورا باندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية سنة 2000 وأحداث 11 سبتمبر 2001.
تطلبت العشرية الرابطة بين نهاية الحقبة السوفييتية وسقوط بغداد خطابا جديدا يوجه للجمهور العربي مع بداية انتشار الأقمار الصناعية ودخول الفضائيات إلى المنازل. فتأسست قناة الـ MBCسنة 1991 ومن بعدها قناة الجزيرة سنة 1996 وشكّك سامي كليب في عفوية ظهور هذه الفضائيات في تلك الفترة متسائلا عن سبب عدم ظهورها في الفترات السابقة كي تؤهب الذهن العربي للتطورات الدولية المنتظرة لا أن تلاحقها بالتحليلات الموجهة والمخطط لها مسبقا. واستدل الكاتب بدراسة نشرتها الباحثة في علوم الإعلام حياة حويك عن مصادر تمويل تلك الفضائيات العربية وكيفية نشأتها مفادها أن الحويك «كانت تكاد تقول إن المسكوت عنه في الفضائيات الخليجية كان خطيرا وإن الفضائيات العربية خدمت أفكار الهيمنة الغربية… وأعطت عشرات النماذج حول تمرير الحضور الإسرائيلي على الشاشات العربية».
ويستدرك الكاتب في هذا السياق مشيرا إلى أن تلك الفضائيات بالرغم من أجندتها الغامضة والمثيرة إلا أنها أسست لبداية ممارسة الجدل العربي والانفتاح والتنافس بين وجهات النظر، «لكن المشكلة تكمن في أن هذا الانتشار لم يتم ضبطه ولم يتأسس على تراكم معرفي وقانوني وثقافي، فعمّت الفوضى… ووصل الشرخ إلى أقصاه مع الحرب السورية».
هذه النتيجة التي وصل إليها سامي كليب في التحليل دفعته في جزء آخر من مقالته «ربيع العرب وخريف إعلامهم» إلى التساؤل الصريح الآن «هل ساهمت الفضائيات فعلا في إطلاق الربيع العربي أم أنها خدمت مشاريع سياسية لا علاقة لها أصلا بالديمقراطية والحريات؟».
يعدد كليب في بداية هذا الجزء أهم وسائل الإعلام العربية التي تحضى بتمويل ضخم من الدول التي تدعمها ولعل أهمها الجزيرة والعربية وسكاي نيوز وإم بي سي وصحف تصدر في المهجر كالشرق الأوسط والحياة والقدس العربي والعربي الجديد، وكلها ممولة من رجال أعمال ودول. والملاحظة التي ساقها سامي كليب هي أن الدول التي تدعم تلك الوسائط الإعلامية لا تؤمن في أنظمتها بالحريات والتعددية والأحزاب والبرلمانات والانتخابات (بعضها يعتبر ذلك كفرا) وبذلك فمن غير المنطقى أن تدعم تلك الوسائل الإعلامية الربيع العربي المفعم بشعارات التحرر والانعتاق. ولئن دعمت الجزيرة حظوظ الإخوان المسلمين في دول الربيع متسترة بغطاء الحريات ومحاربة القمع إلا أن الوضع السياسي بدولة قطر غائب تماما في محتوى تلك القناة والأمر سيان بالنسبة لقناة العربية التابعة للسعودية أو سكاي نيوز الممولة من الإمارات.
ولم تخل تلك التمويلات المباشرة وغير المباشرة من تغذية الخلافات بين تلك الدول وتمرير رسائل مبطنة عن إستراتيجياتها في المنطقة وصراعها على النفوذ داخل تلك الدول وعلى كسب ود أهم القوى الغربية، وربما قد ظهر ذلك مؤخرا مع الأزمة بين قطر من جهة والسعودية والإمارات والبحرين من جهة أخرى بما جعل الإنقسام يزيد حدة وبروز محاور واضحة في المجال العربي تقوده قوى خليجية متصارعة. وأشار كليب في تعليقه على هذا النوع من الانقسامات إلى أن نتائجه كانت خطيرة وتظهر في نقاط عديدة من بينها فقدان الإعلام لوظيفته الإخبارية والتنويرية الأولى وخرق جل قواعد المهنية والحرفية وعدم احترام قواعد وشرائع حقوق الإنسان كما عزز الفتن المذهبية والطائفية وترك الصراع العربي الإسرائيلي “على قارعة الطريق”.
كما أكد سامي كليب أن تلك الفضائيات بما تبثه من مضامين تخرق أيضا الاتفاقات بين وزراء الإعلام العرب. وذكّر كليب بالوثيقة التي نشرتها جامعة الدول العربية سنة 2008 والتي تلخص المبادئ التي اتفق عليها وزراء الإعلام العرب حول “تنظيم البث الفضائي الإذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية” وقد ارتكزت تلك الوثيقة على العديد من المبادئ من بينها
ـ احترام كرامة الإنسان وخصوصيته والامتناع عن انتهاكها
ـ الامتناع عن التحريض على الكراهية والتمييز القائم على أساس الأصل أو العرق أو اللون أو الجنس.
ـ الامتناع عن بث أي شكل من أشكال التحريض على العنف والإرهاب مع التفريق بينه وبين حق المقاومة.
ـ الامتناع عن بث كل ما يتعارض مع توجهات التضامن العربي أو مع تعزيز أواصر التعاون والتكامل بين الدول العربية أو يعرضها للخطر.
وأشار سامي كليب إلى أن جل الفضائيات التي بثت مضامين تخرق هذه المبادئ لم تتم محاسبتها عبر أي اجراء قضائي أو مؤسساتي. فهل توجد حلول لإنقاذ واقع الإعلام العربي؟
منطلق سامي كليب في جزء الحلول المقترحة هو عدم التعويل على الأنظمة الرسمية العربية كي يتم إصلاح الإعلام، وإنما التعويل على المبادرة التي يقوم بها الجسد الإعلامي نفسه لتأسيس ربيع إعلامي حقيقي مستندا إلى عدد من المبادئ لعل أهمها:
ـ صياغة قواعد مهنية تستند إلى أخلاق المهنة ومبادئ حقوق الإنسان وقوانين المهنة العالمية
ـ فرض دورات تدريبية مكثفة ومتواصلة على كل مؤسسة إعلامية من قبل محترفين ومنظمات حقوق الإنسان لمعرفة الشروط الواجب الالتزام بها في معالجة القضايا.
ـ الامتناع عن استضافة من يدعو إلى الكراهية والإرهاب والتحريض الإثني أو الطائفي أو الديني.
ـ تعزيز مناخات الحوار بين الإعلاميين العرب والقيام بمؤتمرات دورية للإعلاميين من العالم العربي والغرب.
ـ وضع كراس شروط حول البرامج الدينية التي تبث في الفضائيات.
ـ تأسيس مجلس عربي لمراقبة الفضائيات والنظر في الشكاوى المقدمة حول مدى التزامها بأخلاق المهنة.
وسوم: الإعلام العربي • سامي كليب • فضائيات عربية