ثورة لبنان تهزّ ثوابت الإعلام التقليدي

23 January، 2020 • آخر المقالاتأبرز المواضيعالإعلام الرقميالإعلام والسياسةحرية الصحافة • المحرر(ة)

حقوق الصورة موقع الجزيرة

نشرت جمعية “مهارات“، وهي جمعية غير حكومية لبنانية هدفها الدفاع عن حريّة الصحافة والعمل على تطوير الإعلام، مؤخرا دراسة بعنوان “رصد حرية التعبير والإعلام خلال الثورة” في الفترة الممتدة بين 17 تشرين/ أكتوبر إلى 31 كانون الأول/ ديسمبر 2019،

وحظيت هذه الدراسة بالكثير من المتابعة لما فيها من منهجية لرصد تعاطي وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي مع الحراك اللبناني المستمر حتى اليوم، واعتبرت الدراسة أن حرية التعبير شكلت السلاح الأول للثوار بما مكن من إيصال أصواتهم إلى كل بيت في كل مناطق لبنان، ولذلك فقد تركز التوثيق كل ما له علاقة بحرية الرأي والتعبير منذ اندلاع هذه الثورة في الفترة التي خصتها بهذه الدراسة.

لاحظت الدراسة أن وسائل الإعلام والاتصال، على تنوعھا في لبنان، قد كسرت الكثیر من القواعد المھنیة والأخلاقیة من خلال فتح المنابر للثائرین من دون ضوابط أو مراقبة، أو من خلال نقل النقاشات العنیفة، وفي بعض الأحيان من خلال صمتھا غیر المبرر، كما كانت الحال مع تلفزیون لبنان، فظهرت تغطیات تخطت حدود التعبیر التقلیدي الذي كان سائدا في البلاد. ورأى كثير من المراقبين أن وسائل الإعلام والاتصال لم تكتف في هذه الثورة بدور مجرد وسیط ینقل الخبر، بل باتت صوت الانتفاضة من جھة وصوت رافضیھا من جھة أخرى، فأصبحت تجسّد حالة الانقسام التي تصيب الناس.

كما تميزت التغطيات الإعلامية بمساهمة المشاهدين في الثورة ورأينا ردود فعل عنيفة في بعض المرات ضد الصحافیین خلال التغطیات المیدانیة، لأن الرأي تحول إلى سلاح في معركة الشارع، فیما سعت قوى السلطة إلى انتزاع هذا السلاح من الشارع والحد من استعماله.

وانقسمت الدراسة التي امتدت على 25 صفحة إلى ثلاثة أقسام كبرى عناوينها هي “حملات قمع حرية الرأي والتعبير”، “حریة التعبیر سلاح الثورة” ثم “المؤسسات الإعلامية في خضم الثورة”.

ضغوطات وتهديدات

تضمن القسم الأول توثيقا لأشكال الضغوطات التي مارستها مختلف السلط على الإعلام قبل انطلاق الحراك، فقد دعا رئیس حكومة تصریف الأعمال سعد الحریري إلى التشدد في العقوبات المالیة تجاه أي “مخالفات إعلامية”، وكذلك تصریحات رئیس الجمهورية میشال عون الذي انتقد أداء الإعلام الذي أصبح یمس “بموقع الرئاسة وهيبة الدولة والاقتصاد اللبناني”. ورغم هذه الضغوطات، فإن تلك المرحلة شهدت سقوط الخط الأحمر أو التابو في الإعلام والمجتمع اللبناني،

ويقدم التقرير قائمة غير نهائية في الضغوطات على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي مثل الاستدعاءات للناشطين لدى مكتب مكافحة جرائم المعلوماتیة والأجهزة الأمنیة، كما تم توثيق عدد كبير من حالات الاعتداء والاعتقال والإخفاء ألقسري، الخطف والعنف، مع بروز دور هام لمخابرات الجیش في تلك الضغوطات والممارسات. وشهد لبنان حالات كثيرة من منع الموقوفين من التواصل مع عائلاتھم ومع محامین ورفضت التصريح عن أماكن احتجازھم حتى لمحاميهم.

وجاء في الدراسة تصريح للسيدة غیدة فرنجیة، عضو لجنة المحامین للدفاع عن المتظاهرين عن أكثر من 300 حالة توقیف مرتبطة بالانتفاضة في مختلف المناطق اللبنانیة، وفي حین تمّ أطلاق سراح معظم الموقوفین، فقد بقي 18 شاباً قید التوقیف في قضیة استراحة صور. وأكدت فرنجیة انطلاقا من متابعتها لهذه الإيقافات، أن عددا من المخالفات القانونية شابتها وأهمها الخطف والعنف.

شيطنة الاحتجاج  

بالتوازي مع ضغوطات واعتداءات السلطة على الصحفيين والناشطين، كان ثمة أيضا وقد تورط اعتداءات موثقة بالتواريخ والأماكن والأسماء من ممثلي كل التيارات السياسية تقريبا وشخصيات قريبة من السلطة.

واستشهدت الدراسة بمقطع فيديو تم تداوله لشاب یدعى لؤي شبلی من مدینة صيدا، وھو یعتذر للسید نصر لله، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، بعد أن طالبه أشخاص تسمع أصواتھم فقط بالاعتذار إلى “صبّاط السید”،

وأطلقت الدراسة عبارة “التنمر الالكتروني ضد الصحفيين والناشطين” وإرهابهم بنشر أسمائهم وأرقام هواتفهم وعدة أشكال أخرى من التعسف باستعمال تهم خطيرة مثل المس بالسلم الأهلي والإساءة للأديان، وكمثال على ذلك فقد تم إطلاق ھاشتاغ ” #دیما_الواطیة” ضد الإعلامية ديما صادق المعروفة بمساندة الحراك الثوري في لبنان، أو راشیل كرم إلى حملة مماثلة مع انتشار ھاشتاغ “#راشیل_الدجال” على اثر خلاف مع مراسل قناة المیادین علي مرتضى.

وستستعرض هذه الدراسة قائمة طويلة من الاعتداءات على الصحفيين من الجنسين وانتهاكات حقوقهم وكرامتهم في الفضاء العام بشكل خاص وجماعي، مثلما ما كتب “كبیر أساتذة “الدراسات الثقافیة والتاریخ في الجامعة الأمیركیة اللبنانیة بیار سركیس، على صفحته على فایسبوك: “إلى “العاهرات والسافلات والحقیرات ” وخصوصاً قائدة الهتافات ضد رئیس الجمهورية ” شوفي منظرك أتطلعي بحالك بأي برمیل زبالة خلقتي” أو ما أطلقه الإعلامي عبدو الحلو من نكات على الهواء عبر تلفزیون حول المتظاهرات، حیث قال: “یلي معو مرتو بالتظاهرات یوصّلھا بكیر عالبیت عم یقولو في أوكرانیات جایین عالساحة”.

وفي الباب الثاني: حریة التعبیر سلاح الثورة، تركز الدراسة على رفع سقف المطالب والشعارات، وتم توثيق شعارات قوية رفعها الناشطون مثل المطالبة برحيل كل الطبقة السياسية “كلن يعني كلن، واحد ممنن”، بالإضافة إلى شعارات أخرى مثل “ثورة، ثورة، الشعب یرید إسقاط النظام”، مع تنویع لأسماء الزعماء السیاسیین، الذین یسیطرون على مفاصل الدولة وشمل ذلك المؤسسات الدستورية وخصوصا مجلس النواب وهو توسع غير مسبوق في توزيع الاتهام من الثورة ضد كل أشكال السلطة.

تضارب السياسيين ينتقل إلى الإعلام

إلا أن الإعلام اللبناني لم يكن متوحدا في نظرته للحراك، ويمكن الحديث عن وجود تضارب في مضامین وسائل الإعلام اللبنانیة ومواجهات بالتهم والتخوين، ولأن النقل والبث كانا مباشرين من أماكن الأحداث، فقد تعرض الكثير من الصحفيين إلى العنف اللفظي واستفزاز الجمهور، وأشارت الدراسة مثلا إلى غياب وسائل الإعلام الداعمة للحراك عن الاحتجاجات التي وقعت أمام المصرف المركزي لأن عدة وسائل إعلامية تلقت قروضا بنكية من مصرف لبنان بفوائد رمزية.

وعلقت موقعا “العربي الجديد” و”إيلاف” على هذا التضارب في مضمون وسائل الإعلام اللبنانیة بالقول: “كل ما سبق قد لا یبدو مستغرباً لمن یتابع نشاط ومسیرة القنوات اللبنانیة، إذ كشفت دراسة لـ”مراسلون بلا حدود”، مع منظمة “سكایز”، أن الأحزاب السیاسیة والعائلات الثریة حاضرة كلیًا في المشھد الإعلامي، إذ تسجل وسائل الإعلام اللبنانیة أعلى معدل من حیث التبعیة السیاسیة: 78.4 في المائة من المنابر الإعلامیة التي تم تحلیلھا تنتمي مباشرة إلى الدولة أو الأحزاب أو شخصيات سياسية”.

وفي إطار تبعية المؤسسات الإعلامية اللبنانية، صنفت الدكتورة نھوند القادري عيسى المحطّات الإعلامية في اتجاهين: “الأول یروِّج لأهل السلطة، ویشیح بوجهه عمّا یحصل، وھو ضائعٌ بين مغازلة الحَراك من جھة، وبین التخوّف منه وتوظیفه لاحقًا في الصراعات الإقلیمیّة من جھة ثانیة، وهذا الاتجاه لا يمارس نقدا ذاتيا، كما لا يأبه لكون الناس لم تتحرّك إلّا لأنّھا شعرتْ بالمهانة ولم یعد یعنیھا كثیرًا صراع المحاور أو الإیدیولوجیّات، والثاني ركب موجةَ الثورة، وراح یقدّم نفسه ثوریًّا أكثر من الثوّار، هنا یجري التركیز على شخصنة الموضوع، وھذا أسلوبٌ أمیركيٌّ بامتیاز في علم الدعایة والتضلیل، وھو یعمل دائمًا على شیطنة الشخص المنتقَد حتى یغدو وكأنّه كلُّ المشكلة، في حین (…)”  أنّه جزءٌ من المشكلة فحسب”.

الإعلام البديل  في غياب الإعلام الرسمي

واتجهت هذه الدراسة إلى البحث في دور منصات الإعلام البدیلة لما ظهر لأول مرة من الحاجة إلى المصداقية المواطنية في مواجهة إعلام منظومة التوازن الطائفي والأحزاب في ظل عدم ثقة اللبنانیین بالإعلام التقلیدي اللبناني الذي تعود ملكیته إما للأحزاب السیاسیة أو یعتمد في تمویله على المال السیاسي واتجه الكثیر من الجمھور إلى منصات الإعلام البدیل، التي قدمت المعلومة بشكل سریع معتمدة على “صحافة المواطن” التي تتمیز بالسرعة في تبادل المعلومات ومقاطع الفیدیو، ونقل ما یتجنّب الإعلام التقلیدي عرضه في بعض الأحيان، إنما مع الكثير من التحديات ابرزھا مدى دقة المعلومة ومصداقیة هذه المنصات البدیلة.

واستعرضت الدراسة أبرز المنصات البدیلة لتغطیة الحراك من صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصا تويتر الذي يحظى بمشاركة واسعة في الشرق، لكن أهم البدائل حسب هذه الدراسة هي الصحيفة الورقية “17 تشرين” التي أصدرها صحفيون وناشطون مناصرون لفكرة الثورة في 16 صفحة مليئة بالرسوم وكتابات الصحفيين والناشطين بأسمائهم الحقيقية، بصفته عملا إعلاميا مناضلا شجاعا ومسؤولا.

وتخصص الدراسة جزءها الأخير للمؤسسات الإعلامية التقليدية في طرق تعاملها مع الثورة، حيث تلاحظ غياب الإعلام العام أو الرسمي الذي لم يتفاعل مع حراك اللبنانيين خصوصا تلفزیون لبنان وإذاعة لبنان، وترى الدراسة أن التظاهرات كانت صادمة للقائمین على خذه المؤسسات وأن ذلك يظهر في حالة التعتیم التي سادت الإعلام الرسمي بغیاب أي استراتیجیات في التفاعل السریع مع الأحداث والحل كان الهروب منھا، واستحضرت الدراسة ما نشره موقع “لیبانون 24 ” من أن هناك انقسامًا بین وزیر الإعلام اللبناني جمال الجراح ومدیر الأخبار والبرامج السیاسیة في تلفزیون لبنان صائب دیاب حول كیفیة التعاطي مع ما یجري في البلاد، فقد أصر الجراح على ألا ینقل تلفزیون الدولة تظاهرات ضد الدولة وألا تتم أي مقابلة مع أي شخصیة لبنانیة إلا بعد الحصول على موافقته، واضطر دیاب إلى التزام بقرار الجراح، فبقي تلفزیون لبنان یبث البرامج العادیة ویستعید المسلسلات القديمة.

وذكرت الدراسة أن التعتیم الإعلامي لتلفزیون لبنان على أحداث الحراك، دفع مجموعة من الفنانیین اللبنانیین للاعتصام داخل مبنى تلفزیون لبنان في 22 تشرین الأول (أكتوبر) احتجاجًا على امتناع الشاشة الرسمیة عن تغطیة التحركات الشعبیة.

وتستحضر الدراسة موقف نقابة المحررین من الثورة التي أصدرت بيانين، الأول صدر في 7 تشرین الأول (أكتوبر) عن مجلس نقابة المحررین عبر فيه عن الاستنكار الشدید للاعتداء الذي طال الصحافیین في غیر موقع من مواقع الحراك كما كرر الطلب من القیادات العسكریة والأمنیة، إصدار الأوامر إلى وحداتھا على الأرض بتوفیر الحمایة التامة لھم. أما البیان الثاني  فقد صدر في 9 كانون الأول  (ديسمبر) عن نقابة المحررین تضامنت من خلاله مع المدیرین المسؤولین بعد أن كثرت تلك الفترة حالات استدعاء هؤلاء المدیرین المسؤولین في صحف ومجلات ووكالات أنباء أمام الكثير من القضايا العدلية.

ورغم ذلك، فقد انتشرت بتاريخ 6 تشرين/ أكتوبر عريضة تدعو إلى بديل للصحافيين عن نقابتي الصحافة والمحررين، جاء في تقديم العريضة: “نرید نقابة تكون موقعاً للدفاع عن المهنة ضد كل اعتداء، أكان من السلطة، أصحاب العمل، أو أجهزة الأمن، نرید نقابةً تشكّل سدّاً منیعاً أمام هؤلاء، لا صندوق برید للمتمولین والسیاسیین، حكّام الداخل والخارج، المقتنعین بھم والمروجین لھم.”

وترصد الدراسة إطلالات رئیس المجلس الوطني للإعلام عبد الهادي محفوظ بشكل متواتر على وسائل الإعلام، للخروج بسلسلة تصاریح عن حریة الرأي والتعبیر، الأول كان بتاریخ 24 تشرین الأول/ أكتوبر وأكد فيه “تضامنه مع مطالب الناس المحقة التي تفترض تجاوبا من السلطة السیاسیة معھا وتفھما لوجع المواطن اللبناني المتضرر من النظام الطائفي.”

ورصدت الدراسة ردود فعل قوية في الجسم الصحفي على تعاطي وسائل الإعلام التقليدي مع الحراك، مثل الاستقالات من جریدة الأخبار ومن قناة المیادین، اعتراضا على المقاربة المهنية لما يحدث، خصوصا الصحفية جوي سلیم التي كانت أوّل من أعلن استقالته من صحیفتها اعتراضا على الخط التحریري المتّبع في التعاطي مع الانتفاضة واعتبرت أن الصحیفة نشرت شائعات ساهمت بتعزیز التحریض على المتظاهرين في الشارع،

واعتبرت الدراسة أن تعمد الكثير من المؤسسات الإعلامية التخفيض في رواتب صحفييها والاقتطاع منها أو تأخيرها كان إجراء عقابيا تحت عنوان تراجع المداخيل المالية،

هذه الدراسة تقر في خاتمتها بأنها ليست دراسة مضمون أو محتوى وسائل الإعلام اللبنانية في تعاطيها مع الحراك الشعبي اللبناني، بل كانت رصدا لردود فعلها الحينية وخصوصا تضارب عمليات التغطية بين النقل المباشر بمشاكله وشيطنة الحراك واتهامه بكل التهم، لكن أبرز ما تحقق للمجتمع اللبناني هو الانتقال الإعلامي وتكسير المحرمات الطائفية والحزبية والقانونية حيث اضطرت وسائل الإعلام التقليدي إلى الرضوخ لضغط الشارع وطلبات الناس في تغطية الحراك وتحمل الكثير من الصحفيين للتبعات الثقيلة للخروج عن الخطوط المسطرة مسبقا.

————–

مهارات: “مؤسسة غير حكوميّة تعنى بقضايا الإعلام وحرية الرأي والتعبير”، أسّستها مجموعة من الصحافيين اللبنانيين للدفاع عن حريّة الصحافة والعمل على تطوير الإعلام.

هي عضو في الشبكة الدوليّة للتبادل الحرّ للمعلومات (IFEX)، التي تضم نحو 90 منظمة تعنى بحرية التعبير حول العالم، وشريكة في حملة حريّتهم حقّهم للدفاع عن سجناء ومعتقلي الرأي في العالم العربي.

رابط للإطلاع على النص الكامل للتقريرعبر هذا الرابط

Send this to a friend