لا يصلح هذا السؤال سوى للخداع، إذ لا أحد يعرف طريقة واضحة لصنع صحفيي استقصاء ناجحين، إنما سوف نستعرض معكم في هذا المقال القصير أهم مميزات هذا الاختصاص الصحفي المثير لاهتمام الصحفيين والهواة وجمهور المتلقين.
يحتفظ الاستقصاء الصحفي، بجاذبية كبيرة خصوصا في المجتمعات التي تعاني من تفشي الفساد، حيث يقف هذا الجنس الصحفي في مواجهة القوى الفاسدة المتنفذة التي تعمل على إخفاء الحقائق للتفصي من العقاب الاستمرار في الاثراء غير المشروع، لاشك أن هذه الجاذبية عائدة إلى السلطة المعنوية الكبيرة التي اكتسبها هذا الجنس الصحفي في المجتمعات المتقدمة، حيث بإمكان عمل صحفي استقصائي جيّد أن يطيح بوزير، أو حتى برأس السلطة التنفيذية نفسها وأن يجرّ أطرافا كانت تظن نفسها قوية، إلى المحاسبة، تضاف إلى ذلك الصورة الرومنسية الجذابة للصحفي الذي ينجح، فقط اعتمادا على قلمه في فضح الفساد والظلم وإعادة الحقوق إلى أصحابها، وعلى إصراره في طلب الحقيقة وعمله المهنجي الدؤوب، مقاوما الإغراء والترهيب من أجل الحقيقة.
إن في هذه الانتظارات الجماعية من صورة الصحفي الذي يقاوم بوسائل بسيطة قوى الظلم والفساد، نصيب كبير من الصورة الأسطورية للبطل الذي يقوم بحق الأغلبية المظلومة ضد الطغمة الظالمة، من أجل الأغلبية التي تنتظر من يريها الطريق السوي، الضعفاء والمظلومين ومن لا صوت لهم، وإعادة شيء من العدالة والتوازن إلى هذا العالم المليء بالفوضى والظلم.
- واقع يحتاج عزيمة خاصة
إلا أن هذه الصورة الرومنسية عن صحفي الاستقصاء، تحيلنا إلى أسئلة الواقع في الإعلام التونسي، حول ما إذا كان ذلك ممكنا في وسائل الإعلام التونسية، بالنظر إلى شيئين مهمين: أولا، وضعية صحافة الاستقصاء وإعطائها حقها في ظل ميراث مهني فقير إلى مراكمة التجارب والخبرات ووضعية الصحفي التونسي بصفة عامة، وثانيا، طبيعة المجتمع التونسي، حيث الإدارة والدولة تحتكم على نظام بيروقراطي شديد التعقيد ومتسلط ينهك عزيمة أي صحفي تونسي في طلب المعلومة والوثائق والحجج من المصدر الرسمي، وحيث ما يزال المجتمع المدني، الشريك الأول لصحافة الاستقصاء، يتلمس طريقه في بداية نموه، يعاني الفرد فيه من الخوف والترد.
إن التدريب والتكوين في تقنيات صحافة الاستقصاء لا يؤديان بالضرورة إلى صحفيين ناجحين في هذا الاختصاص الشاق الذي يتطلب حشد الكثير من المهارات المهنية وخصوصا بيئة مهنية مناسبة لذلك، وهو ما يجعلنا نبدأ بوضعية الصحفي التونسي.
عمليا، ينقسم الإعلام التونسي إلى نوعين مختلفين: الإعلام العمومي والإعلام الخاص، ثمة أمراض مهنية مشتركة بين القطاعين أهمها ميراث عشرات السنين من الإعلام الخاضع كليا للنظام، المحروم من الخطاب النقدي والخروج عن المطلوب سياسيا، حيث تحولت أغلبية الصحفيين إلى تردد صدى لوجهة نظر النظام، وقد رأينا ذلك في مختلف الأزمات الاجتماعية والسياسية التي عاشتها تونس، حيث تتسخر وسائل الإعلام عمومية وخاصة لشيطنة جماعية لخصوم النظام.
وبالنسبة للقطاع العمومي في الإعلام، فهو ما يزال يوفر للصحفيين أمانا اجتماعيا على الأقل، ومجال حرية نسبي، إنما كما قالت لي إحدى الزميلات المستفيدات من دورة تكوين في صحافة الاستقصاء: “أي معنى للحرية وللمعرفة والكفاءة المهنية، إذا كانت هرمية الإنتاج الإعلامي في وسيلة الإعلام ما تزال خاضعة لطريقة عمل إعلام ما قبل الثورة ؟”، وهي تعني بذلك مثلا غياب إطار مهني لصحافة الاستقصاء، مثل المجلات الأخبارية المتخصصة، أو حتى الأركان القارة في نشرات الأخبار اليومية، فيبقى الصحفي الطامح إلى تطبيق ما تلقاه من تكوين في صحافة الاستقصاء رهين الاستنزاف في العمل اليومي، يضاف إلى ذلك، عدم وضوح الرؤية المهنية بخصوص هذا الجنس الصحفي في وسائل الإعلام العمومية، على عكس ما نراه في وسائل إعلام مماثلة في فرنسا وبريطانيا مثلا، حيث توجد أقسام مهنية متخصصة في صحافة الاستقصاء ضمن مجلات إخبارية دورية أو ضمن أركان خاصة في نشرات الأخبار، بما يعنيه ذلك من تخصص وتفرغ.
أمّا في القطاع الخاص، فليس في الوضع ما يدعو إلى التفاؤل أو حتى الوعي بأهمية صحافة الاستقصاء في إنقاذ الإعلام الوطني من أزماته. وباسثناء حالات قليلة يمكن حصرها، فإن الإطار الصحفي في أغلب وسائل الإعلام الخاصة يعاني من التشغيل الهش والأجور المتدنية، والكثير من هذه المؤسسات حتى الناجحة تجاريا، يطالب الصحفيين بالجري وراء “الخبطات الإعلامية الصادمة والمثيرة” والعناوين الرنانة التي لا تؤدي إلى معلومات حقيقية بدل العمل المهني المحترف، ويستنزف الكفاءات الصحفية في العمل اليومي دون التفكير في منح الفرصة لها في العمل الاستقصائي الذي يتطلب وقتا ودربة واستثمارا متوسط المدى، يضاف إلى ذلك، أن الكثير من وسائل الإعلام الخاص، ولأسباب ربحية بحتة، تفضل انتداب العابرين، وحتى موظفين في مؤسسات أخرى في أوقات فراغهم، بدل انتداب صحفيين محترفين، حتى أن مطلب صحفي بالتفرغ لعمل صحفي استقصائي طيلة أسبوعين أو أكثر يجابه بالسخرية وتثبيط الهمة، تضاف إلى كل ذلك معضلة صحافة القطاع الخاص في تونس، وهي التداخل بين الإدارة والتحرير ونقص التأطير وتسمية المشرفين حسب الولاء خصوصا حين يتدخل المال السياسي على حساب الحرفية.
إن هذا الاستعراض السريع لوضع الإعلام في تونس لا يحبط حب هذا الجنس الصحفي النبيل لدى مئات الصحفيين التونسيين الذين نلمس لديهم رغبة حقيقية في ممارسته أيا كانت التضحيات، إنما ثمة توصيات موجزة يمكن صياغتها للمهتمين بهذا الجنس الصحفي الصعب، انطلاقا من شيء من الخبرة المتواضعة التي ترتبت لي بالممارسة الميدانية للمهنة بصيغ مختلفة ثم في التأطير وأخيرا في التكوين والتدريب.
- قابل للإنجاز
إن أول حكمة تتبادر إلى ذهني في العمل الاستقصائي، سواء كان ذلك في القطاع العام أو الخاص هي «عمل صحفي قابل للإنجاز في زمن معقول»، إذ ليست هناك مؤسسة إعلام في هذا العالم، خاصة أو عمومية توافق على تمكين صحفي من التفرغ الكلي أو الجزئي في عمل مشكوك في إمكانية إنجازه، ولرئيس التحرير تقدير العمل القابل للإنجاز وفق المقاييس وفي زمن معقول، والقدرة على إنجاز مشروع عمل صحفي استقصائي، أيا كانت صعوبته، تأتي مع الدربة والاختصاص.
- الاستقصاء أيضا منتوج تجاري
صحفي الاستقصاء مطالب مثل أي شخص يعرض منتوجا، بإقناع أصحاب المؤسسة بجدوى العمل، بأهمية الفرضية وعلاقتها بالشأن العام، أعني بالعمل الصحفي، ومن هنا، على صحفي الاستقصاء أن يحسن «تسويق» موضوع عمله وفرضياته، لإقناع من سينفق كلفة للإنتاج، سواء كان للخاص أو العام، إن هذا يتطلب من الصحفي، أن يفض مشاكله تجاه موضوع عمله وفرضياته ويقنع به نفسه وفق مبادئ العمل الصحفي قبل أن يطرحه للإنجاز، حتى ينجح في تقديمه بطريقة مقنعة ووجيهة لغيره، إن مجلس التحرير، من واجبه أن يناقش مع الصحفي وجاهة عمله الاستقصائي من حيث المبدإ أو الفرضيات، وكل تلك النقاشات تمثل إثراء للعمل، وتظافرا للخبرات الجماعية للعمل الصحفي عموما، إنما، أول حلقات العمل الصحفي الناجح هي قدرة الصحفي على صياغة «عناوين فرضيات صحيحة وصلبة»، قابلة للبيع إلى الجمهور.
- الفرضيات، وما أدراك ما الفرضيات
آفة صحافة الاستقصاء هي التحامل والتسرع في إثبات الفرضية، كن مستعدا دائما لتعديلها أو التخلي عنها إن لزم الأمر، بدل التورط في موضوع «مسحوب من شعره غصبا»، فيه تعسف على الحقيقة أو تأثر بأفكار مسبقة أو جاهزة، اذ تفترض صحافة الاستقصاء أن نبل الحقيقة أكبر مما نتمناه أو نريده، كثيرا ما يدفع الحماس لفكرة خاطئة أو مهتزة إلى نتائج مخالفة للقواعد الأساسية لمهنة الصحافة نفسها.
- التخطيط: لا تدع فرضيات العمل تغلبك
اجعل لنفسك خارطة عمل وفق الفرضية الأساسية التي انطلقت منها والفرضيات الفرعية، تتضمن أسماء وعناوين الأطراف التي سوف تستمع إليها، المصادر المختلفة، الوثائق الضرورية لتأطير الفرضية، حتى يكون عملك متوازنا.
- التقنية والأجناس الصحفية
العمل الصحفي عموما، وصحافة الاستقصاء بشكل خاص بحاجة إلى الإبداع، أقصد هنا، الكتابة الجيدة، توظيف تقنيات السرد، القصة الصحفية، الحوار الممتع، الكتابة بالصورة، استعارة تقنيات الفنون الأخرى مثل المسرح والسينما من أجل عمل صحفي يجعل الحقيقة أقرب ما تكون إلى المتلقي، إن هذا يتطلب من الصحفي، ليس فقط إتقان الكتابة، بل خصوصا، توظيف عدة مهارات إبداعية من أجل الحقيقة، لأنه، حتى الحقيقة، تحتاج إلى من يقدمها بطريقة مثيرة للاهتمام والمتابعة.
أخيرا،
لا يولد الإنسان صحفي استقصاء ولا تمنح شهائد العلم والدراسة والتدريب سوى أهلية نظرية لممارسة هذا الاختصاص، يصبح الصحفي كذلك بالدربة وميراث الخبرة المهني، لأن مثل هذا الاختصاص يقف على قمة اختصاصات المهنة، يتطلب كذلك تطوير غرائر المعرفة لدى الصحفي، وقناعات أخلاقية ثابتة تصمد إزاء الإغراءات والتهديدات، من أجل الحقيقة، إنما، بعدها الأمجاد الحقيقية، وليس أقلها، صناعة التاريخ، أو تحويل مساره.
حقوق الصورة، alchimy.info
وسوم: إعلام • تونس • رقابة • صحافة الاستقصاء • صحفي استقصاء • ظلم • عمل استقصائي • فساد • كمال الشارني