صرح مؤسس موقع تلغرام بافيل دوروف مطلع هذا العام بأن “السلطات الإيرانية قد حجبت موقعي تلغرام وإنستاغرام” وذلك بعد ورود تشكيات من مستخدمين إيرانيين تفيد بأنه من المستحيل الولوج إلى الموقعين. وفي المقابل نفى مسؤولون إيرانيون أن تكون مصالح الدولة الإيرانية قد أغلقت الموقعين، وقال وزير الاتصالات محمد جواد آذري هجرمي أن الغرض من ذلك هو “نشر الإشاعات التي تؤدي إلى إحداث البلبلة في المجتمع وتصعيد الغضب والتشاؤم”، كما أشار الوزير إلى أن “الدعوات على تلغرام تعد تحريضا على العنف والفوضى وحان الوقت لإيقاف هذا“.
Iranian authorities are blocking access to Telegram for the majority of Iranians after our public refusal to shut down https://t.co/9E4kXZYcP9 and other peacefully protesting channels.
— Pavel Durov (@durov) December 31, 2017
الملفت للانتباه في هذه التصريحات هو أنها جاءت في شكل تغريدات على تويتر، سواء من قبل مؤسس تلغرام أو وزير الاتصالات الإيراني. ويعد ذلك امتدادا لظاهرة جديدة في مجال الخطاب السياسي وهو اقتحام المنصات الافتراضية واستعمالها لبث خطاب سياسي موجه للجمهور، وقد التحق المسؤولون الإيرانيون بهذه الظاهرة مؤخرا بعد أن كانت وسائل التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وإنستاغرام وتلغرام وغيرها مغلقة منذ أحداث 2009، بالرغم من الجدل الذي دار في أروقة السلطة الإيرانية بين مؤيد لغلق هذه المنصات ومعارض لغلقها.
وبين أخذ ورد، أقر مؤسس تلغرام أن منصته الافتراضية ربما قد تساعد بعض الداعين إلى الفوضى والعنف على تحقيق أهدافهم، مشيرا إلى أن تلغرام سوف تغلق كل قناة على منصتها تدعو إلى العنف أو تروج له، لكنه شدد في الحين ذاته على أن حرية التعبير تعتبر أمرا مقدسا وإذا ما التزم النشطاء بعدم الدعوة إلى العنف فإن ما ينشرونه من دعوات للتظاهر السلمي والاحتجاج يعتبر أمرا مشروعا ولا يمكن للسلطات الإيرانية أن تمنعه بأي شكل من الأشكال.
وإزاء ما يمكن أن نسميه هيمنة النظام على منظومة الإعلام الرسمي من قنوات تلفزية ووكالات وأنباء وأغلبية الصحف والنشريات فإن الحلول الوحيدة الممكنة أمام المتظاهرين تكمن أساسا في المضامين الإعلامية المنشورة على مواقع الواب والتي تريد السلطة أيضا أن تتحكم فيها لصالحها أو أن تغلقها إذا تطلب الأمر. ففيما اعتبرت وكالة فارس الإيرانية للأنباء أن الاحتجاجات في إيران تمثل تدخلا أجنبيا أو تمهيدا للتدخل الأجنبي في قضاياها الداخلية فقد اعتبرت وكالة مهر للأنباء أن سبب الاحتجاجات هو عدم قرب المسؤولين السياسيين من جل الشباب حسب تصريح الرئيس حسن روحاني.
ولئن ظهر بعض الاختلاف في تقييم أسباب انتشار موجة الاحتجاجات العارمة في إيران منذ نهاية سنة 2017 ومطلع عام 2018 إلا أن وجهات النظر تلك لم تقدم أسبابا واضحة صادرة عن المتظاهرين أنفسهم وماهية موقفهم بدقة والشعارات التي يرفعونها، وهذا ما يضع القوة الإعلامية في كف السلطة في الحين الذي لا يملك فيه المتظاهرون أي وسيلة أخرى للتعبير سوى مواقع التواصل الافتراضي، ثم سرعان ما يتم اتهام الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية بالتدخل في إيران للتحريض على العنف والفوضى.
وبالعودة إلى التاريخ، وما أشبه اليوم بالبارحة، فإن ما أشار إليه الكاتب والفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو في كتاب “فوكو صحافيا، أقوال وكتابات” وهو جمع لمقالات فوكو عندما كان مراسلا لصحيفة كورياري ديلا سيرا الإيطالية Corriere Della Sera والتي قام بجمعها ونقلها إلى العربية الكاتب والباحث الموريتاني في الفلسفة البكاي ولد عبد المالك، يعد أحد أبرز النماذج على إمكانية انقلاب أي قوة سياسية على نفسها وخطابها والأدوات التي كانت تستعملها للوصول إلى السلطة، وقد تدافع تلك القوى السياسية على مشروعية أدواتها ـ خاصة في مجال الإعلام والاتصال ـ واحاطة تلك الأدوات بشحنة خطابية شديدة تمنح الشرعية النضالية لبث خطاب ما وسط الجماهير، كحرية التعبير المقدسة والحق في ابداء الرأي في الشأن العام والتظاهر وغيرها من الحقوق السياسية.
فقد أشار ميشال فوكو في مقالة نشرت في الكتاب المذكور بعنوان “الثورة الإيرانية تنشر على الأشرطة المسجلة” إلى أن الفضل في سقوط الشاه يعود إلى “الأشرطة المسجلة المسموعة التي مثلت أداة الإعلام المضاد بامتياز” مشبها ذلك باستخدام الزعيم الفرنسي شال ديغول للراديو للتحكم في الحياة السياسية في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي لها. وقد أورد فوكو العديد من الأمثلة والنماذج على قدرة الخميني على تحريض الجماهير ضد حكم الشاه عبر تلك الأشرطة المسجلة والتي كانت توزع بسرية تامة بين النشطاء وهي ممنوعة من قبل السلطات ويعاقب حاملها أو سامعها بعقوبات قاسية.
إن تشديد السلطات الإيرانية الحالية رقابتها على وسائل التواصل الاجتماعي تعد إعادة محاكاة لما كان يحدث بين سنتي 1978 و1979 عندما كان أعمدة النظام الحالي شبابا يتظاهرون في الشوارع ويوزعون أشرطة الخميني التي كانت تسجل في باريس وتدخل إلى إيران عبر مسالك سرية. وأما اليوم فإن النظام نفسه الذي كان يتعرض للحظر والقمع قد يكون واقعا في الخطأ ذاته عندما منع الشباب من التعبير عن رأيه وموقفه من التطورات الحاصلة في بلاده سواء على المستوى الاقتصادي والمعيشي (رفع في الضرائب مع اجراءات تقشفية شديدة) أو على مستوى الحريات الفردية (هناك أصوات تتعالى من أجل تحرير المرأة وإلغاء قوانين تمس من الحريات الفردية في إيران).
وبقطع النظر عن أسباب منع النظام الإيراني لحرية التعبير في مواقع الإعلام الجديد، فإن تركيزه على منطق المؤامرة والتدخل الأجنبي في شؤون إيران الداخلية يمكن تصنيفه في باب الدعاية السياسية المصحوبة بإجراءات زجرية تحت غطاء الحماية من الفوضى وتطبيق القانون، فمناخ الحريات مختنق في إيران وهذا ما يؤكد النزعة التسلطية التي تتعارض مع الحرية والديمقراطية.