استخلص بحث تحليلي قام به المرصد الأوروبي للصحافة حول الإعلام العمومي في أوروبا أنه ومنذ سنة 2008 أجبرت الأزمة المالية العالمية عددا من وسائل الإعلام على إدخال تغييرات إستراتيجية في تنظيمها الخاص وطريقة تمويلها ومحتواها، في حين أن وسائل الإعلام الأخرى لم تمسها الأزمة بشكل ملحوظ. وقد خلص البحث أيضا إلى أن ميزانيات وسائل الإعلام العمومية في أوروبا تختلف اختلافا واضحا فيما بينها في جميع أنحاء القارة ولا تتشارك المؤسسات الإعلامية العمومية في استراتيجية مالية موحدة.
وهدفت الدراسة إلى تقديم لمحة إجمالية عن سياسات الخدمات العامة والمالية، بعد عشر سنوات تقريبا من الأزمة، وقام المرصد الأوروبي للصحافة في هذا السياق بمقارنة الميزانيات واستراتيجيات السوق والمحاسبة لوسائل الإعلام العمومية في تسعة بلدان أوروبية بداية عام 2017، وذلك لدراسة ما إذا كانت قد تأثرت بالأزمة المالية العالمية أم لا.
وقد تم الوقوف على اختلافات كبيرة في ميزانيات وسائل الإعلام العمومية وطرق تمويلها في جميع أنحاء أوروبا. كما بيّنت الدراسة استنادا إلى تحليلات أجراها باحثون إعلاميون محليون ووثائق مفتوحة ومتاحة، أن الطريقة التي يتم بها تمويل إدارة الإعلام العمومي لا تحدث فرقا يذكر في مستوى ممارستها للاستقلالية. وقد سبر البحث أغوار أنواع مختلفة من الأسواق، وهي الأسواق الكبيرة (ألمانيا والمملكة المتحدة وإيطاليا) والمتوسطة (بولندا ورومانيا) وأسواق وسائل الإعلام الصغيرة (الجمهورية التشيكية والبرتغال وسويسرا ولاتفيا).
وتتألف وسائل الإعلام العمومية في بعض البلدان من التلفزيون والإذاعة والمنصات الرقمية المرتبطة بها (مثل مواقع الويب، وقنوات مخصصة على يوتوب، وصفحات مخصصة على مواقع التواصل الاجتماعي). وتشمل هيئات البث العامة الوطنية الأخرى كالوكالات الصحفية الممولة أيضا من ميزانية الدولة. وتقتصر دراسة المرصد الأوروبي للصحافة فقط على البث التلفزيوني والإذاعي والمواقع الإلكترونية ذات الصلة.
اختلاف ميزانيات الإعلام العمومي بين دول أوروبا
بعد مرور حوالي 10 سنوات عن ظهور الأزمة المالية العالمية، اتضح الاختلاف والتباين بين ميزانيات الإعلام العمومي في الدول الأوروبية، بين ما يتجاوز الستة مليارات أورو سنويا إلى الـ20 مليون يورو سنويا. وقد حصل تلفزيون أ.ر.د. الألماني على أكبر قدر من التمويلات سنويا، أما الأقل تمويلا فهو التلفزيون الروماني الذي تم انقاذه من الإفلاس سنة 2016.
وتظهر الاختلافات بأكثر وضوحا في مقارنة المعاليم التي يدفعها الأفراد لوسائل الإعلام العمومية (إجمالي الميزانية مقابل عدد السكان). فقد بلغ سنة 2016 دخل وسائل الإعلام العمومية في كل من رومانيا ولاتفيا وبولندا حوالي 10 إلى 12 يورو للفرد الواحد، في حين كانت إيرادات ألمانيا والمملكة المتحدة أعلى بكثير حيث بلغت 82 و87 يورو للفرد على التوالي، وتبدو سويسرا أفضل تمويلا، إذ تبلغ مساهمة الفرد الواحد 181 يورو. لكن ذلك قد يكون مفهوما نظرا للعبء الذي تتحمله سويسرا في تلفزيون عمومي يبث بأربع لغات.
في بعض الدول تخضع الإذاعة والتلفزيون ومواقع الواب التابعة لها ولوسائل الإعلام العمومية إلى هيئة واحدة، أما في بعض الدول الأخرى فقد تكون منفصلة، مثل الجمهورية التشيكية وبولندا ورومانيا.
اختلاف صيغ التمويل
يتم تمويل وسائل الإعلام العمومية الأوروبية بطرق مختلفة، فالبعض يتم تمويله من خلال رسوم الترخيص، والبعض الآخر مباشرة من ميزانيات الدولة أو من عائدات الإعلانات.
وتشير دراسة المرصد الأوروبي للصحافة إلى أن معظم وسائل الإعلام العمومية في أوروبا مؤهلة لكسب دخل الإعلانات. إذ يوفر الإعلان أكثر من 50٪ من دخل التلفزيون البولندي، على سبيل المثال، أما في إيطاليا فتشكل المصادر التجارية – معظمها الإعلانات التلفزيونية – حوالي 40٪ من دخل تلفزيون الـ”راي“ يتم تمويل الرصيد من رسوم الترخيص من جملة الضرائب لدى المواطنين.
وفي ما يخص هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) فهي الهيئة الوطنية الوحيدة التي لا يسمح لها قانونا ببث الإعلانات أو الرعاية التجارية. وتمول هيئة الإذاعة البريطانية في المقام الأول من معاليم سنوية قدرها 163 يورو (147 جنيها إسترلينيا) لكل أسرة، ولكن في المقابل، فإن حوالي ربع إيرادات هيئة الإذاعة البريطانية تأتي من ذراعها التجاري، وهي شركة ”بك وردويد لت“ التي تبيع برامج وخدمات بي بي سي دوليا.
كما تقوم بي بي سي في جميع أنحاء العالم بتوزيع خدمة الإذاعة البريطانية على مدار 24 ساعة، وذلك عبر ”بي بي سي وورلد نيوز“، ووفقا للتقرير السنوي، تقدم بي بي سي وورلد ليميتد خدمات الموقع الإلكتروني لهيئة الإذاعة والتلفزيون البريطانية.
ويوجد في سويسرا التلفزيون العمومي الذي يتمتع بنسبة تتراوح بين 30 و38 بالمئة من نسبة المشاهدة، والإذاعة العمومية التي لها حوالي 60٪ من الجمهور. وهذا يضر بقنوات البث التجارية التي تواجه أيضا منافسة شديدة من هيئات البث التجارية والعامة التي تبث من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا المجاورة لسويسرا. وبهدف سد هذه النقائص، تستخدم حصة صغيرة (4٪) من الإيرادات المحصلة من رسوم ترخيص البث الوطني لدعم شركات الإذاعة السويسرية التجارية.
وفي كل وسائل الإعلام العمومية في أوروبا فإن شبكة أ.أر.دي الألمانية تعد أكثر تلك الوسائل حضوة بالتمويل، وهي مكوّنة من مجموعة من الإذاعات الإقليمية. ويستند دخلها إلى مزيج من المعاليم المرتفعة نسبيا (تبلغ مساهمة البث، روندفونكبيتراغ، 17.50 يورو لكل أسرة في الشهر – 210 يورو في السنة). وتعفى الأسر ذات الدخل المنخفض والطلاب من هذه المعاليم. ويمثل التمويل العام 86٪ من إجمالي إيرادات أ.أر.دي د، و 85٪ من إيرادات شبكة ز.دي.أف، وهي ثاني وسيلة إعلام عمومية في ألمانيا.
وسائل الإعلام العمومية والأزمة المالية العالمية
تسببت الأزمة المالية العالمية في الفترة 2008-2009 في انخفاض عائدات الإعلانات وأدت أيضا إلى انخفاض عدد الأشخاص الذين يدفعون المعاليم. ووجدت دراسة المرصد الأوروبي للصحافة أن العديد من وسائل الإعلام العمومية في أوروبا اضطرت إلى تغيير استراتيجية التمويل ردا على انخفاض الإيرادات، ونسوق في ذلك بعض الأمثلة:
1ـ الجمهورية التشيكية: سنة 2008 لم يكن لها تأثير يذكر
نجت الجمهورية التشيكية من أسوأ آثار الأزمة الاقتصادية، وأبلغت هيئات البث العامة عن عدم وجود صعوبات مالية كبيرة نتيجة للانكماش الاقتصادي. ومع ذلك، ضغطت هيئات البث التجارية في البلاد بسبب القيود المفروضة على مبيعات الإعلانات من قبل التلفزيون التشيكي، مما أدى إلى اتخاذ قرار سياسي في هذا الصدد.
وتتمثل المصادر المالية الرئيسية للتلفزيون التشيكي في المعاليم التي يدفعها المواطن والمداخيل المتأتية من العمليات التجارية (مثل الإعلان). ويتماثل حجم سوق الإعلام في تشيكيا بالسوق الإعلامية بالبرتغال. لكن هيئات البث العامة في الجمهورية التشيكية تستخدم ضعف عدد الأشخاص الذين يستخدمهم راديو البرتغال.
2ـ ألمانيا: فرض تغييرات في رسوم الترخيص
لم يكن للأزمة المالية تأثير مباشر يذكر على وسائل الإعلام العمومية الألمانية، ولكن الأزمة كانت مناسبة لحشد الحكومة وإجراء بعض التعديلات على الطريقة التي يتم بها تمويل هيئات البث العامة. ومنذ عام 2013، أصبح على كل أسرة في ألمانيا دفع معاليم بقيمة 17.50 يورو شهريا (210 يورو سنويا). وتشمل الإعفاءات الأسر والطلاب ذوي الدخل المنخفض.
3ـ إيطاليا: تغييرات في طريقة تحصيل رسوم الترخيص
كانت سنة 2009 – 2010 السنة الأكثر تحديا بالنسبة للإعلام العمومي بإيطاليا وخاصة شبكة الـ”راي“ نظرا لحصول الشبكة على تمويلها من مصادر تجارية. وقد كانت سنة صعبة نظرا لانخفاض عائدات الإعلانات على الرغم من أن المعاليم ظلت كما هي.
كما تأثرت إيرادات الـ”راي“ بعدد المشاهدين الذين يتجنبون دفع المعاليم. حتى عام 2016 كانت معدلات هذا التهرب مرتفعة بشكل خاص في إيطاليا، حيث بلغ متوسطها 26٪ (في كامبانيا كانت أكثر من 50٪). ومع ذلك، في عام 2015، أدخلت حكومة ”ماتيو رينزي“ إصلاحا هاما يتمثل في ربط المعاليم بفواتير الكهرباء المنزلية، الأمر الذي يجعل التهرب من دفعها أمرا صعبا. ونتيجة لذلك، ارتفع دخل الـ”راي“ بنسبة 12.5٪ في عام 2016، على الرغم من انخفاض في المبلغ الذي كان على كل أسرة دفعه، وفقا للتقرير السنوي لعام 2016.
موارد هائلة، مسؤولية كبرى
كشفت دراسة أجراها مكتب الشؤون الاقتصادية الأوروبي تهتم بالدعم الإذاعي الأوروبي، أن عمليات التمويل والإيرادات في فترة ما بعد عام 2008 قد أثرت تأثيرا كبيرا على وسائل الإعلام العمومية الأوروبية. ويبدو أن الأزمة المالية كانت فرصة لأطراف أخرى، بما فيها منظمات الإعلام التجاري، للطعن في شرعية الإعلام العمومي في جميع أنحاء أوروبا، مهما كانت جودة تمويلها أو إدارتها. وقد تضمنت هذه التحديات الحد من إمكانية الوصول إلى إيرادات قطاع الإعلام العمومي، وتحدي رسوم الترخيص، بل ومهاجمة مفهوم اإلذاعة الممولة من القطاع العام.
أما الجزء الثاني من هذه الدراسة فقد اهتم بمسألة استقلالية الإعلام العمومي في جميع أنحاء أوروبا، وخلصت الدراسة إلى أن أساليب التمويل لا تحدث فرقا يذكر في مجال الاستقلال عن الحكومات.
ملاحظة: نشر هذا المقال بالمرصد الأوروبي للصحافة وتمّ ترجمته من قبل سيف الدين العامري.
وسوم: أوروبا • الإعلام العمومي في أوروبا • المرصد الأوروبي للصحافة • ميزانية