دفع حراك ما عرف بالربيع العربي منذ 2011 الذي شكل كابوسا لازم الصحفيين بوتيرة أقوى من القوانين والأخلاقيات والأعراف التي عهدتها مهنة الصحافة، نقول هذا رغم الدور التعديلي لحارس البوابة في الأنظمة الديمقراطية وكيف نشأ منذ الخمسينيات من القرن الماضي كسليل نظرية وظيفية في وسائل الاتصال. إن التغير الاستراتيجي في المشهد الاتصالي بات يتطلب استدعاء آليات اجتهادية في البحث العلمي لتفسير كل اتخذ عدة تمظهرات هي بين الثورة (تونس، مصر) والتثوير (سوريا، ليبيا) والإصلاح (الأردن، المغرب) تقديم مفردة الإعلام إلى مراتب التحليل والتفسير لفهم ما حدث قبل وبعد 2011. وقد وصل هذا الحضور إلى درجة الاحتفاء بقيمة الإعلام والاتصال في تحليلات النخب ومشاريع الساسة وخاصة في إعادة صياغة تموقعهم وترتيب أدوارهم في ضوء البيئة الإعلامية الجديدة التي أحدثها حراك “الربيع العربي” في المنطقة. إذ أصبحت مخرجات الإعلام تُشهر أمام المسؤول السياسي، وباتت مؤشرات التلقي تأتي من نسب مشاهدة اليوتيوب والإعجاب على صفحات الفيسبوك وإعادة التغريد على موقع التدوينات تويتر. ولم تعد علاقة المسؤول والنخب والجمهور العريض بالخبر وبالمعلومة كما كان عليه الحال سابقا من رقابة وتحكم وخاصة من الفعل الخفي لذلك العدو اللدود للإعلام العربي ولعقود طويلة والمشهور باسم “السيد حارس البوابة” وهو اتلك الكيمياء التي انصهرت بين كل تلك الحركات الاحتجاجية والميديا وحارس البوابة ومعها تشكل نظام بيئي جديد للأفكار والآراء وسبل تناقلها داخل المجتمع العربي.
في هذا السياق يتنزل كتاب الدكتور عزام أبو الحمام الموسوم ب “نظرية حارس البوابة في البيئة الجديدة للاتصال: دراسة في الصحافة الأردنية”، وهذا الكتاب في الأصل ثمرة بحث لنيل شهادة الدكتوراه في علوم الإعلام والاتصال بمعهد الصحافة وعلوم الأخبار بتونس. وتتميز السياقات الجديدة للفعل الإعلامي بما أضحى عليه القطاع من حضور لفاعلين جدد؛ وتجاذبات أيديولوجية وسياسية حادة، هذا بالإضافة إلى بروز تحولات بنيوية وهيكلية في صيرورة اشتغال حارس البوابة وإثارة سؤال طالما تجادل حوله المهتمون بالحقل الصحفي: هل أفلّ نجم حارس البوابة أم تغيرت هيئته في ضوء التغيرات الجيوسياسية والثقافية والتكنولوجية المصاحبة لحراك الربيع العربي؟ هنا تكمن الحاجة الماسة اليوم وبعد كل هذه السنوات إلى إعادة القراءة العلمية بحثيا لكل ذلك الإرث النظري الكوني في علوم الإعلام والاتصال وتتبع كل ذلك الحراك الاجتماعي والسياسي للوصول إلى مقاربة في فهم خصائص البيئة الجديدة للإعلام والاتصال؛ وهو ما كان للباحث عزام أبو الحمام من خلال اشتغاله على نموذج حارس البوابة في الصحافة الأردنية.
ويعدّ هذا المبحث مقاربة علمية جريئة على هيئة مراجعة لنظرية من أعتى نظريات الاتصال وأشدها صلابة لارتباطها بنيوياً بآليات السُلط السياسية والاجتماعية والاقتصادية ألا وهي نظرية حارس البوابة، هذا فضلا عن إحالتها لنظريات ونماذج أخرى مثل نموذج ترتيب الأجندة ونظرية التأطير framing. لقد سادت هذه النظرية ولا زالت في تفسير تتبع مسار نشر الأخبار ذات الصلة بالشأن العام داخل المؤسسات الإعلامية، وهي تعنى في المقام الأول في عمليات تدخل القائمون على العملية الإعلامية بغربلة الأخبار والسماح للبعض منها بالنشر وحجب أو تعديل الأخرى، وبذلك فهم من يمتلكون سلطة قرار تمرير أو حجب هذه المعلومة أو تعديلها قبل أن تصل إلى جمهور وسائل الإعلام. و لعل خير سبيل لتفسير تشكل بيئة إعلامية واتصالية جديدة كما يذهب إلى ذلك الباحث هو أن نتتبع – ومن جديد- آلياتها من خلال دراسة حالة الصحافة الأردنية الورقية والإلكترونية وضمن سياق الحركة الإصلاحية والاحتجاجية التي شهدها الأردن بعد سنة 2011، وكيف اشتغلت آليات نظرية حارس البوابة في ذلك السياق السياسي الاتصالي.
تكمن الجدة العلمية والطرافة البحثية لهذا المؤلف فيما أشار إليه الباحث من ظهور سلاسل جديدة لحراس البوابة الإعلامية أو ما اصطلح على تسميته بـ “نظير حارس البوابة” Counterpart gatekeepers، وهو ما يعني تغيراً معرفيا في آليات اشتغال هذه النظرية ضمن البيئة الجديدة للاتصال التي تتسم بتحولات سوسيولوجية لصيقة بحراك ما بعد 2011 وبطبيعة المجتمع، علاوة على التحولات الميدياتيكية المتمثلة بميلاد بيئة رقمية قوامها الإنترنت التفاعلي. وقد لخص الباحث في خاتمة هذا البحث أهم النتائج قائلا “أظهرت نتائج التحليل أنه لم يعد هناك مقدرة على حجب المعلومة بسبب تكنولوجيا الاتصال الحديثة التي تمتاز بالشبكية واللامركزية، وأنه لم يعد هناك مقدرة على الاحتكار المطلق للمعلومة والخبر، مع ذلك فإن عمليات الضبط والتحكم التي يقوم بها حراس البوابات gatekeepers لم تنته وباتت تعتمد على تكنولوجيا الاتصال نفسها في بعض الأحيان، أو على القوانين والأنظمة عبر تعديلها وتطويرها في أحيان أخرى، ولأنه من الصعب حجب الأخبار عبر وسائل الإعلام الحديثة، فقد تأخرت الصحافة الورقية قليلا في أداء الوظيفة الإخبارية لصالح الإعلام الجديد، ولتعويض ذلك فقد أخذت الصحافة الورقية ترُكز على الخطاب بالتفسير والتحليل والدلالة (نظرية الأطر)، وهي لأجل ذلك تستعين بأساليب تحريرية وأخرى يقوم بها كتاب مقالات الرأي”.
لقد كان للباحث طيلة الاشتغال على منجزه هذا عدة منهجية متنوعة أحسن توظيفها في سبر أغوار اشكاليته التي راوحت بين المنهجين الكمي والكيفي، وبين الاستمارة والمقابلة وتحليل المضمون وتحليل الخطاب، وهو ما حصن البحث في نتائجه ووفر له وهجاً معرفياً وصلابة علمية مفادها أن نموذج حارس البوابة التقليدي لم يعد قادرا على مسايرة البيئة الجديدة للاتصال وأن مكونات النظرية باتت تعمل كعنصر تعديل، وأن مسار الأخبار لم يعد بالإمكان التحكم فيه كما كان سائدا في الماضي مع نموذج إعلام الاتصال الجماهيري التقليدي، مع بيان أنه لا يمكننا وصف ما حدث – ومن خلال نتائج هذا البحث- بالانقلاب في نظرية حارس البوابة حسب تعبير الباحث.
ختاما يمكن القول إن هذا البحث يعد مرجعاً هاماً للباحثين الشباب في علوم الإعلام والاتصال في العالم العربي. لقد أضحت علوم الإعلام والاتصال مبحثا يستقطب العديد من المهتمين أكان ذلك على مستوى البحث أم التدريس، وهو ما يتطلب وبشكل موازٍ تفسيراً ومراجعة لكل الإرث النظري حتى يمكننا مسايرة التحولات العميقة التي تعيشها المنطقة العربية والعالم.
أخيرا، فإن هذا الكتاب اعتمد في صياغته على شهادات ومراجع ومصادر متنوعة وحجاجا قائما على جداول كمية وعلى تحاليل كيفية، عرضت كلها بلغة سليمة وخلاصات مرتبة ونتائج علمية واضحة توفر لهذا المؤلف متعة القراءة ودقة التوثيق.
——————–
الدكتور عزام أبو حمام، باحث في علوم الإعلام والاتصال، مهتم بمنهجية البحث العلمي ونظريات الاتصال والميديا الاجتماعية، له عدد من المؤلفات والأبحاث المنشورة في الإعلام والعلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية.
البريد الالكتروني : [email protected]
ملاحظة: هذا المقال هو توطئة لكتاب الدكتور عزام أبو حمام
وسوم: الأردن • البوابة الإعلاميّة • الربيع العربي • حارس البوابة