لا تزال مكبلات تحرر الإعلام المغاربي تقف عائقا أمام تطور هذا الإعلام، سواء من خلال هيمنة السلطة السياسية عليه كالحال في الجزائر والمغرب أو بهيمنة منظومة اقتصاد الإعلام مثلما هو الحال في تونس. ينطبق ذلك على منظومة الإعلام التقليدي في التلفزيون والإذاعة والصحافة المكتوبة.
لم يبارح التواصل الجماهيري عبر الإعلام المغاربي بعد إشكاليات حقبة الإعلام الجماهيري من قبيل السقوط في الدعاية للسلطة السياسية، والرقابة الذاتية للصحفي، وتجنب طرح التابوهات الاجتماعية والسياسية. إلا أن ظهور أساليب التواصل الافتراضية الجديدة زاد من تعقيد المشهد وصعوبة تحليله.
تونس: ارتباك في مسار تحرير الإعلام
لم يتوصل النموذج التونسي بعد إلى مستوى يضعه في مرتبة الإبداع، باستثناء بعض القنوات الإعلامية المستقلة والجمعياتية مثل موقع “نواة” أو موقع “إنكيفادا” أو الإذاعات الجمعياتية العاملة أساسا في خارج العاصمة والتي تحظى بدعم من الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري. وقد نجحت تلك القنوات في اتباع أسلوب “إعلام القرب” القائم على نقل الإشكالات الحارقة والآنية للناس مثل أزمة المياه في المناطق الداخلية، وملفات الفساد في السلطة، والتدقيق في أداء نواب البرلمان طيلة السنة البرلمانية الماضية، وملفات أخرى.
أما المحطات التلفزيونية والإذاعية الخاصة والعمومية، فقد أشارت دراسات أن إنتاجاتها الإعلامية تعيد في أحيان كثيرة الصورة النمطية للمجتمع التقليدي، وهي تمثلات إعلامية و“درامية” لم تستوعب بعد انتقال تونس من نمط ما قبل الثورة إلى ما بعدها. ولعل دراسة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري التي نشرت يوم 7 ديسمبر 2017 بعنوان “موقع وصورة النساء في الأعمال الدرامية التلفزية التونسية” تدل على هذا القول. تتخلص نتائج الدراسة في أن 20 بالمئة من مجمل صانعي المنتوج الدرامي هم النساء و80 بالمئة من الرجال، وأن الهيمنة في أدوار البطولة في المسلسلات يحظى بها الذكور بنسبة 59 بالمئة على حساب النساء. كما أثبتت الدراسة أن نسبة 54 بالمئة من المصطلحات الموجهة للمرأة في تلك الأعمال الدرامية هي مفردات مهينة لأخلاق المرأة، كما بلغت نسبة المفردات المهينة لعقل المرأة وفكرها الـ25 بالمئة وذلك عبر 225 عبارة سب وشتم موجهة للنساء.
أما وسائل الإعلام الخاصة فقد ارتكز أغلب بثها على البرامج الكوميدية والمضامين الفضائحية التي يتم تمريرها تحت مسمى “تلفزيون ـ إذاعة الواقع” ويمكن أخذ تلفزيون “الحوار التونسي” كمثال.حيث بلغ عدد البرامج المخصصة للمنوعات والـ“الشو” والطبخ والزواج والإشكالات الاجتماعية 12 برنامجا في حين لم يخصص للمضامين السياسية سوى برنامجين وهما “ما لم يقل” والحصة اليومية “7 ـ 24” ويلاحظ الغياب التام لأي برنامج متخصص في الثقافة أو الفنون على شاشة هذا التلفزيون.
وحول المضمون السياسي تشير دراسة أخرى للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي والبصري نشرت يوم 9 أكتوبر 2017 إلى أن الحكومة والأحزاب الكبرى تحتفظان بالجانب الأكبر من الحيز الزمني المخصص للسياسة في الإذاعة والتلفزيون. حيث يحظى المسؤولون الحكوميون بنسبة 32 في المئة من تلك المساحة وتنال الأحزاب الكبرى والممثلة في البرلمان 56 بالمئة في حين أن حضور بقية القوى السياسية من خارج البرلمان وممثلي المجتمع المدني لا يتجاوز الـ10 بالمئة. وقد تصدر حزب نداء تونس قائمة الأحزاب البرلمانية المقدمة في الإعلام التونسي بنسبة 21,52 بالمئة.
وبالعودة إلى المضامين الفضائحية في الإعلام التونسي، يمكننا أخذ برنامج“سرك في بير” للإعلامي علاء الشابي كأحد الأمثلة التي جذبت الانتباه في الفترة الأخيرة. و“سرك في بير” هو برنامج إذاعي في شكل “الأوبن مايك” يفتح المصدح للمتكلمين (دون كشف أسمائهم الحقيقية) كي يرووا حكاياتهم الحميمية أو إشكالاتهم الخاصة ليسمعها الجميع دون أي معالجة للمشكل ودون حضور محام أو متخصص في الطب النفسي كي يقدم النصيحة للمتصل. فقط يقوم المنشط بسؤال المتصل عن سبب سهره إلى هذا الوقت المتأخر من الليل (توقيت بث البرنامج) وما على المتصل سوى الإجابة متحدثا عن محنته. والملاحظ أن جل المواضيع التي تؤرق المتصلين تتعلق بحياتهم الجنسية أو الزوجية، وهو ما جعل برنامج “سرك في بير” يحظى بنسبة استماع هامة نظرا لطبيعة المواضيع التي تذاع من خلاله، وذلك بالرغم من الجدل الواسع الذي أثير حول برامج تلفزيون الواقع خاصة من أصحاب الرأي القائل بأن هناك نوع من الإشكالات لا يمكن أن يبث في التلفزيون أو في الإذاعة.
وقد ازداد الجدل بخصوص هذا البرنامج مع تصريح الإعلامية التونسية “عربية حمادي” بأنه “برنامج لا يحتوي أي منفعة ويتعامل مع أشخاص مجهولين ولا يوجد أي دليل على ما يروونه من حكاياتهم الخاصة”. ويلفت هذا الرأي الانتباه إلى نقطة هامة وهي “ما الفائدة من أناس تتحدث عن خياناتها الزوجية والوضعيات الجنسية المفضلة لديها وكيف أن امرأة طلقت زوجها لأنها أحبت شخصا على فيسبوك ثم ظهر أن ذلك الشخص هو زوجها وقد تراسل معها بحساب وهمي؟ وما نفع المستمع من معرفة قصة فتاة حملت من زوج أختها؟… إلخ”.
لقد أثرت منظومة اقتصاد الإعلام على المحتوى الإعلامي في ذاته، إذ انحازت المنظومة القانونية الجديدة في تونس ما بعد الثورة إلى تحرير وإطلاق المبادرات الخاصة، ولكن الاستفادة من هذه حرية تقتصر على أصحاب رؤوس الأموال الضخمة الباحثين عن الاستثمار في الإعلام، ولا تمتدّ إلى محاولة النهوض بمحتوى الإعلام وتنويعه. يضاف إلى ذلك أن رجال الأعمال في تونس أصبحوا مرتبطين عضويا بأحزاب وتيارات سياسية لها أجنداتها واستراتيجياتها الإعلامية والاتصالية الخاصة. ومن ثم أصبحت منظومة الإعلام قائمة على التنافس في كسب الجمهور ونسب المشاهدة وليس التنافس على المضامين المطابقة – على الأقل – للمقاربة الوظيفية للإعلام، والتي تقوم على “الإخبار والتثقيف والترفيه” وفق ما جاء في وثيقة اليونسكو حول دور الإعلام السمعي البصري كمرافق خدمية.
الجزائر: البروباجندا بدلا من المعلومة
“لم تتمكن برامج تلفزيون الواقع في الجزائر من نقل الإشكالات التي يعيشها الفرد في فضائه الخاص إلى الفضاء العمومي بقصد إيجاد حلول له وتحسيس السلطات بوجود إشكالات هذا النوع أو ذاك، بل إن برامج تلفزيون الواقع ليست سوى دعاية للنمط المجتمعي الذي يعيشه الجزائريون”. ورد هذا في دراسة للباحث الجزائري نصر الدين لعياضي بعنوان “برامج تلفزيون الواقع وإرهاصات التحوّل في بنية الفضاء العمومي في الجزائر ورهاناته”، نشرت في مجلة المستقبل العربي الصادرة ببيروت في مايو/ أيار 2017. وقد توصل لعياضي إلى هذا الاستنتاج بعد العمل على أربعة برامج من فئة تلفزيون الواقع والتي تعرضها القنوات التلفزية الخاصة، وهي “خطّ أحمر”، و“خطّ برتقالي”، و“المحكمة”، و“ما وراء الجدران”.
وتقوم مثل تلك البرامج بالأساس على فكرة “إدانة” أصحاب الشهادات ووضعهم في زاوية التأنيب، الأمر الذي يحول تلك البرامج إلى “فضاء لمحاكمات موازية تقوم على الأخلاقوية” حسب تعبير لعياضي. فقد أصبحت الشهادة التي تقدم في برنامج “الخط البرتقالي” مثلا (ملامح المتدخل دائما ما تكون مخفية) في قفص الإدانة الثقافية الاجتماعية وتمثل عرضا لإشكال فقهي إسلامي أمام رجل الدين الذي يحضر في البرنامج طالبا “التوبة” من “الحالة” وعدم تكرار ما فعلت، في مقابل أن إحدى “الحالات” التي ظهرت على التفلزيون شهادة شجاعة في أنه(ها) مثلي أو مثلية جنسيا وتطالب بقبولها والتعايش معها في المجتمع لا أكثر.
حضور القاع الثقافي ـ الاجتماعي في برامج تلفزيون الواقع في الجزائر ليس مفصولا عن المنظومة السياسية التي تحكم البلاد. فالتكامل بين المنظومتين يعد أحد أهم الركائز التي من خلالها يتغذى النظام المغلق في الجزائر ويواصل عيشه، إذ لا تقبل النخبة السياسية أي جرأة من أي نوع قد تعود عليها بزعزعة لاستقرار نظامها الحالي نحو أفق آخر أكثر انفتاحا. وربما ينخرط ذلك في استراتيجية كاملة اتخذها النظام الجزائري لمقاومة أي امتداد لـ“الربيع العربي” الذي انطلق من الجارة تونس.
وبالعودة إلى ما كتبته الباحثة في العلوم السياسية في جامعة الكوباك“آن ماري جينغراس” فإن السياسيين، خاصة في الأنظمة المغلقة والمترعة بالدوغمائية المجتمعية، ينزعون نحو السيطرة الكاملة على الصحفيين والإعلاميين وبالتالي على منظومة الرسائل بشكل عام. ولا تخلو هذه السيطرة من التدخل الأمني في كيفية اشتغال الصحف والتلفزيونات والاعتقالات المتتالية التي طالت الصحفيين والتحقيق معهم حول ملابسات لا ترتقي إلى التعامل الأمني معها كما تسعى بعض الدوائر الاقتصادية المقربة من السلطة إلى الضغط على صحف بعينها.
وليس الهدف من هذا السلوك السياسي الذي يمكن اعتباره “طبيعيا” البحث عن منابر إعلامية لإيصال الصوت أمام خصوم آخرين (إذ يمكن أن يكون هذا من خصائص الأنظمة الديمقراطية) بل إن هيمنة السياسي على الإعلامي في الحالة الجزائرية تهدف إلى إبقاء الوضع على ما هو عليه وعدم السماح لعقل المواطن بالتفكير بجرأة.
وقد ورد في بيانات المنظمات الدولية التي تعنى بحرية والإعلام والصحافة أمثلة عديدة على القبضة الحديدة التي تمارسها السلطة في الجزائر على الصحفيين. مثلما ورد في بيان للفدرالية الدولية للصحفيين في يونيو/حزيران 2016 من إدانة إيقاف بث برنامج “ناس السطح” الذي يبثه التلفزيون الخاص “كا بي سي” وإيقاف مسيريها وإعلامييها.
كما نشرت منظمة مراسلون بلا حدود تقريرا في نيسان/أبريل 2017 يحمل عنوان “الانحراف الكبير: التراجع الملحوظ للحريات الصحفية في الجزائر” أدانت فيه المنظمة تعامل السلطة مع المدونين والصحفيين. حيث تم سجن 4 مدونين محترفين يعملون لصالح وسائل إعلام جزائرية كما سجلت وفاة الصحفي الجزائري ـ البريطاني محمد تاملت يوم 11 ديسمبر 2016 وهو قيد الإيقاف.
المغرب: المؤسسة الملكية “تصلح” الإعلام
تم تأسيس الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري في المغرب سنة 2002بظهير ملكي جعل السلطة الفعلية على الهيئة في يد الملك، ويظهر ذلك من خلال اختصاص الملك بتعيين رئيس الهيئة وأربعة من أصل تسعة من أعضائها. ولم تحظ هذه الهيئة بقوة دستورية إلا بعد تسع سنوات من تأسيسها وذلك ضمن حزمة الإصلاحات الدستورية التي أملاها الملك سنة 2011. وهو ما يعكس أن هذه الهيئة ليست سوى ورقة سياسية لامتصاص أي صدام مع المنظمات الحقوقية المحلية أو الدولية واستباقا لما قد تطالب به بعض القوى في سياق “الربيع العربي”.
وفي دراسة له بعنوان “التجربتان المغربية والتونسية في التعديل السمعي البصري” يشير إنريك كلاوس الباحث الفرنسي في العلوم السياسية إلى أن تأسيس هيئة التعديل المغربية عبر “منحة ملكية” يعد أول معطل يقف أمام عمل الهيئة بحرية واستقلالية وفعالية، خاصة وأن الهيئة تستمد قوتها وشرعيتها القانونية من خلال مؤسسة حكم تنفيذية تهيمن على أغلب المؤسسات الأخرى ولا تستمد هذه الشرعية من رغبة عامة داخل مؤسسات قطاع الإعلام في بعث هيئة إصلاحية تكون قادرة على دعم الإعلام وفض النزاعات وتطبيق القانون.
ومن أهم نتائج خضوع الهيئة للسلطة الملكية “وجود هوة شاسعة بين الجمهور وقضاياه اليومية وبين ما يتم بثه من مضامين إعلامية. كذلك تعاني المرأة في المغرب من تهميش إعلامي ومن وضعها في منطقة ثانوية سواء من ناحية كونها مصدرا للمعلومة، أو من ناحية أنها ضيفة محاورة في البرامج والبلاتوهات السياسية”، وذلك حسب ما ورد في دراسة للباحث المغربي عبد اللطيف بن صفية. ويشير بن صفية مثلا إلى “أن المواطنين قد عبروا فعلا عن امتعاضهم من غياب التغطية الإعلامية التلفزيونية للزلزال الذي ضرب مدينة الحسيمة شمال المغرب في يناير/تشرين الثاني 2016. وقد تجاوز بذلك التلفزيون المغربي مسألة الضبط المشترك بين إدارة تحريره وباقي مكونات المجتمع المدني والمواطنين وفق مقاربة الديمقراطية التشاركية، والتي تعد أحد أهم الركائز في تكوين هيئات التعديل الساهرة على أن يكون الإعلام خدمة للمواطن”.
من جانب آخر، أكد خبراء أن حضور المرأة في الإعلام المغربي يعد حضورا غير منصف مقارنة بالصورة التي يقدمها الإعلام عن الرجل. وأشار الباحث المغربي عبد الوهاب الرامي في دراسة ميدانية قام بها مع معهد التنوع الإعلامي البريطاني إلى أن الإعلام المغربي يفرط في الإيجابية والتفاؤل فيما يتعلق بمشاركة المرأة في الحياة العامة المغربية، عكس ما تقوله الأرقام فيما يخص حضور المرأة في التغطيات الإخبارية والمشاركة في التحليل وتأطير الرأي. وتشير الدراسة إلى أن نسبة اعتماد مرأة كمصدر للخبر لا تتعدى الـ25 بالمئة كما أن المدة الزمنية الممنوحة للمرأة تبقى في مستوى الـ12,6 بالمئة. وحتى داخل هذا المساحة الضئيلة ينطبع حضور المرأة في الإعلام المغربي بكونها دائما ضحية.
لم يتجاوز الإعلام المغاربي إذن أزمة الإعلام التقليدي والتي تنتمي إلى صنف أزمات الأزمنة الاتصالية السابقة مقارنة بما نحن عليه اليوم من زمن الفضاء السيبيري الذي يعد أحد أهم القنوات الاتصالية في مجال الإعلام والصحافة اليوم. وتعكس أزمة اقتصاد الإعلام وهيمنة السياسة والثقافة المجتمعية النمطية على المضامين الإعلامية إشكالية تأخر التطوير وتردد السلطة السياسية والفاعلين الإعلاميين والمستثمرين في أخذ منحى جديد يغير وجه المجتمع المغاربي.
ملاحظة: نشر هذا المقال بموقع orientxxi